الشيخ علي سليم
إن البلاء سنَّة إلهيّة جارية في بني آدم منذ بداية الخلق وستبقى إلى يوم القيامة ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 62)، ولكنه تارة يكون خاصاً يصيب الإنسان كفرد، وأخرى يكون عاماً يصيب المجتمع أو الأمة.
*بلاء الأمّة أشدّ
إن نوع الإنسان كسائر الأنواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية، لا يخلو في أفراده من حوادث جزئية يختلّ بها نظام الفرد في حياته الشخصية من: موت، ومرض، وخوف، وجوع، وغمّ وحرمان. فالدار دار التزاحم، والنشأة نشأة التبدّل والتحوّل،﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر: 43). والبلاء الفردي وإن كان شاقاً على الشخص المبتلى، مكروهاً، لكن ليس مهولاً مهيباً تلك المهابة التي تتراءى بها البلايا والمحن العامة. فإنّ الفرد يستمد قوّة تعقّله، وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الأفراد. وأما البلايا العامّة الشاملة فإنها تسلب الشعور العام وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة المجتمعة، ويختلّ بها نظام الحياة منهم، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة، ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات. فالبلاء العام، والمحنة الشاملة أشقّ وأمرّ(1). ولذا بشر الله الصابرين على هكذا بلاء كما في قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155) وهو ما سنبيّنه في الختام بإذن الله.
*الاعتبار بالأمم السالفة
وهذه السنَّة الإلهيّة -أي البلاء العام- جرت في الأمم السالفة كما يستفاد من قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
وفيها ذكر سبحانه ما جرى على المؤمنين من الأمم الخالية، تسلية لنبيّه ولأصحابه فيما نالهم من المشركين وأمثالهم. لأن سماع أخبار الخيار الصالحين، يرغّب في مثل أحوالهم، فقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ معناه: َظَننتم أيّها المؤمنون ﴿أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم﴾ أي: ولمّا تُمتحنوا وتُبتلوا بمثل ما امتُحنوا به، فتصبروا كما صبروا. وهذه استدعاء للصبر وبعده الوعد بالنصر. ثم ذكر سبحانه ما أصاب أولئك فقال: ﴿مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء﴾ والمسّ واللّمس واحد. وقيل البأساء: القتل، والضراء: الفقر. وقيل: هو ما يتعلق بمضارّ الدين من حرب وخروج من الأهل والمال وإخراج فمدحوا بذلك إذ توقعوا الفرج بالصبر ﴿وَزُلْزِلُواْ﴾ أي: حركوا بأنواع البلايا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ﴾ وقيل: إن معناه الدعاء لله بالنصر، ولا يجوز أن يكون على جهة الاستبطاء لنصر الله، لأن الرسول يعلم أن الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة. ثم أخبر الله سبحانه أنه ناصر أوليائه لا محالة فقال: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾.. وقيل: إنه ذكر كلام الرسول والمؤمنين جملة وتفصيلاً. وقال المؤمنون: متى نصر الله. وقال الرسول: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب﴾(2).
*ابتلاءات شتّى
ولو أردنا ذكر نموذج من الأمم التي ابتليت بابتلاءات شتّى لوجدنا أمة موسى عليه السلام أي بني إسرائيل في مواجهة فرعون وأهل مصر الذين قال عنهم تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ (الأعراف: 132 - 133).
حيث عدّت الآية خمسة أنواع من البلاء الذي تعرَّض له قوم فرعون ولكنهم لم يعتبروا ولم يزدجروا. وتفصيل القصة لا تتسع له هذه المقالة وهو مذكور في كتب التفسير كتفسير نور الثقلين(3).
ومن الأمثلة البليغة التي ضربها القرآن الكريم في المقام قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ (النحل: 12).
إذ ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرة المباركة:
أ - الخاصيّة الأولى: الأمن.
ب - الخاصيّة الثانية: الاطمئنان في إدامة الحياة.
ج - الخاصيّة الثالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إليها.
وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطاً علّياً وحسب تسلسلها، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علّة ومعلول، فلو فقد الأمن لما اطمأن الإنسان إلى إدامة حياته في مكانه المعين، وإذا فقد الاثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإنتاج وتحسين الوضع الاقتصادي هناك. فالآية تقدّم درساً عملياً لمن يرغب في بلاد عامرة وحرّة ومستقلة.
فقبل كل شيء لا بدّ من توفير حالة الأمن، ومن ثم بعْث الاطمئنان في قلوب الناس بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الاقتصاد. فبهذه النّعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إلى درجة تكامل حياتها المادية فقط. ووصولاً للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (مادياً ومعنوياً) تحتاج المجتمعات إلى نعمة الإيمان والتوحيد، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم: ولقد جاءهم رسول منهم(4).
ويتّضح لنا من خلال الاطّلاع على قصة هذه القرية أنّ ابتلاء أهلها بالجوع والخوف إنّما كان بسبب كفرانها بنعم الله تعالى(5). وبهذا المعنى ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات، ليتوب تائب ويقلع مقلع، ويتذكّر متذكّر، ويزدجر مزدجر.
*كيف نواجه البلاء؟
توجد طريقتان في مواجهة البلاء: الأولى وقائية، والثانية علاجية.
الطريقة الأولى: أي دفع البلاء بشكر النعم. فعن الإمام الصادق عليه السلام: مكتوب في التوراة: اشكر من أنعم عليك وأنعِم على من شكَرك، فإنّه لا زوال للنعماء إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت، والشكر زيادة في النعم وأمان من الغير(6).
وتقوى الله لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
وإقامة الصلاة (قربان كل تقيّ) لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
وإيتاء الزكاة وإخراج الخمس فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من حبس عن أخيه المسلم شيئاً من حقّ حرّم الله عليه بركة الرزق إلّا أن يتوب". وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء ومعونة للفقراء، ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله عزَّ وجلّ له، وإنّ الناس ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء"(7).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء"(8).
والصدقة والدعاء، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الصدقة تدفع البلاء، وهي أنجح دواء، وتدفع القضاء وقد أبرم إبراماً، ولا يذهب بالأدواء إلا الدعاء والصدقة"(9).
والاستغفار وترك الذنوب، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة ويذكره الاستغفار"(10).
الطريقة الثانية: دفع البلاء بالصبر: رفع آثار البلاء بالصبر واحتساب الأجر والرجوع إلى الله عزَّ وجلّ.
يقول تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 155 - 157)، أعاد ذكر الصابرين:
أولاً: ليبشّرهم.
ثانياً: يبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل.
ثالثاً: يظهر به حق الأمر الذي يقضي بوجوب الصبر وهو ملكه تعالى للإنسان.
رابعاً: يبيّن جزاءه العام، وهو الصلاة والرحمة والاهتداء.
فأمر تعالى نبيه أولاً بتبشيرهم، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم أمره فإنها من الله سبحانه فلا تكون إلّا خيراً وجميلاً، وقد ضمنها ربّ العزة، ثم بيَّن أن الصابرين هم الذين يقولون: كذا وكذا عند إصابة المصيبة وهي الواقعة التي تصيب الإنسان، ولا يستعمل لفظ المصيبة إلّا في النازلة المكروهة، ومن المعلوم أن ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال، ولا مجرد الإخطار من غير تحقّق بحقيقة معناها، وهي أنّ الإنسان مملوك لله بحقيقة الملك، وأنّ مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقّق أحسن الصبر الذي يقطع منابِت الجزَع والأسف، ويغسل ريْنَ الغفلة(11).
*أهمية الاسترجاع
فالالتفات إلى أنّ نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقتة وعابرة. وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عَرَضاً عابراً وسحابة صيف، وهذا المعنى تضمنته عبارة: ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾.
"كلمة الاسترجاع" هذه خلاصة كل دروس التوحيد، والانقطاع إلى الله، والاعتماد على ذاته المقدسة في كل شيء وفي كل زمان. وأولياء الله ينطلقون من هذا التعليم القرآني، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد، وكي يجتازوا مرحلة الاختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في تفسير الاسترجاع: "إن قولنا: إنا لله إقرار على أنفسنا بالملك، وقولنا: إنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلك"(12).
الخلاصة: الأمة المتسلّحة بالإيمان ورأسه الصبر والمتلبّسة بلباس التقوى والأعمال الصالحة والمتزيّنة بالأخلاق الفاضلة أي الأمة الصابرة المحتسبة المسترجعة هي أمة قادرة على مواجهة مختلف ألوان البلايا والرزايا، مهما عظمت. هي أمة ظافرة قاهرة منتصرة.
1.تفسير الميزان, السيد الطباطبائي، ج1، ص343 - 344.
2.تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج2، ص68 - 69.
3.تفسير نور الثقلين، الشيخ الحويزي، ج2، ص58 - 60.
4.الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج8، ص349 - 353.
5.تفسير نور الثقلين، م.س، ج3، ص90 - 91.
6.ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص1487.
7.م.ن، ص1074- 1147.
8.م.ن، ج3، ص1945.
9.م.ن، ج2، ص1595.
10.م.ن، ج1، ص305 - 306.
11.تفسير الميزان، م.س، ص352 - 354.
12.نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم99.