غفوة في أحضان الشهداء
لفتني في مجلتكم العزيزة ما كتبته الأخت الفاضلة ايفا علوية ناصر الدين، حيث أنّها استطاعت أن تلهب في داخلي مشاعر الحنين لجدّي ولجدّتي، اللذين رحلا عن هذه الدنيا قبل دحر العدوّ الصهيوني. فلم يقدّر لهما "الغفوة في أحضان الانتصار" وإنما في مكان آخر...
انتقل جدّي وجدتي مع عائلتهما الصغيرة للسكن في منزل جيد، يقع في أطراف قريتنا الممتدة بشموخها على سفح جبل أبيّ من جبل عامل. زرع جدّي في أرضه أشجار التين والزيتون والرمان وغرس مع كل نبتة حبّاً وتعلقاً بترابها. وعلى حين غفلة، لم يمض وقت طويل حتى التفّت جدّتي بالسّواد بعد عدوان صهيوني غادر على قريتنا، ذهب ضحيته ثلّة من الشهداء الأبرار بينهم خالي محمد الذي كان حينئذ لا يتجاوز العاشرة من العمر، وظلت تبكي، وتسقي بدموعها الياسمين والأزهار التي نبتت على قبورهم... مشهد آخر من القهر أطل مع تهجير الأهالي، الذين هرعوا إلى البساتين، حاملين معهم ما أمكنهم، مخلفين وراءهم أحلامهم الوردية، منطلقين إلى الأفق الملبد بالغيوم. أمّا من آثر البقاء منهم، فإن أيدي العدو طالته، في أبشع مجزرة، ذهب ضحيتها أكثر من ثمانين مسنّاً، كانت دماؤهم الطّاهرة تروي أرض البلدة التي ألهبها الظمأ بعد رحيل أحبتها. كان جدّي وجدّتي في عداد النّاجين، وتحت إصرار الجميع، اضطرا للتوجه إلى بيروت. وهناك ضاقت الأرض بما رحبت، وأحسّ جدّي بثقل الأيّام ومرارة الحياة، بعدما اعتاد على محادثة السّماء ومحاكاة الأشجار والمروج الخضراء، والسواقي الصّافية كصفاء قلبه. مشت الأيّام بطيئة، وظلَّ جدي الذي أصابه الشلل يستمع إلى جهاز الراديو، يبحث عن خبر ما. وفي إحدى المرات، عندما كان حفيده المجاهد محمد رضا يزوره، أخبره أنّه شاهد البلدة، وملأ عينيه منها في وضح النّهار، وأطرب أذنيه بخرير الينابيع المنتشرة حولها، قائلاً له: "رح نرجع يا جدّي، رح نرجع". تلك العبارة كانت تعيد لجدّي بريق الأمل المنطفئ ورده: "كيف يكون ذلك وهم حرقوا الأخضر واليابس؟". حلم العودة رافق جدّي إلى أيّامه الأخيرة، وفي يوم دافئ مشرق سمعته ينادي أمي، ويقول لها: "سنّديني، أريد أن أنظر من النافذة وأودّع الدنيا". لم تمض أيّام قليلة إلاّ ورحل جدّي قبل أن تلمس قدماه الأرض التي أحب. أمّا جدتي، التي وهن العظم منها واشتعل الرأس شيباً، فما انفكت تحدثنا عن أيّام خلت وأحبة رحلوا... ولا أنسى الأدعية المتصاعدة من لسانها، يلهج بها قلبها الأبيض سيما منها دعاء الافتتاح. رحمهما اللَّه، وأسكنهما فسيح جنّاته، وإن لم يستطع تراب بلدتنا الطّاهر أن يضمّهما، فإن الشهيد السعيد محمد رضا(1) وثلّة من شهداء البلدة كانوا بانتظارهما في "روضة الشهيدين"، فهنيئاً لهما تلك الغفوة في أحضان الشهداء، وتعساً لنا، لأننا ما زلنا نغفو على أعتاب الزّمن، ولسنا إلاّ من عبّر عنهم الإمام علي عليه السلام بالنيام(2). كاتيا حسين نصار
(1) الشهيد محمد رضا عواضة.
(2) عن الإمام علي عليه السلام: "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا".
كاتيا حسين نصّار
***
مشاوير
حلِّق معي على غيمة ليل رمادية، تعال نَطُفْ حول الحياة، لكن ارتدِ سترة "تقيك" الأحزان علَّها تكون رحلةً لا تشبه الرحلات. أو أغمض العين فأنت اليوم ضرير، لا تنظر القلوب، وتمتع بنوم قرير. دعنا في علوّنا نتنشق عطر الوجود، نتذوق طعم القسوة، نسمع هدير الأرواح، تلفح وجوهنا مناديلُ أطفال تعطرت بالسلام، ودموعُ أمهاتٍ تسربلت بالسواد أو غصةُ آباءٍ نسيها الوفاء طعنها الغدر فآثرت الزوايا. أرأيت يا من لا يرى تلك الأرواح التي تلاحقنا إنها العصافير سجنت أجسادها في قفصٍ وحلَّقت أرواحها تلاحق جمال الحرية. هيا لندخل بين أكوام نجومٍ سوداء نتعلَّم منها البذل والعطاء ونسألها عن سبب الجفاف ثم نقبِّل قطرات الرحمة ونمجِّد من علَّم الأرض الرحمة. سنطير فوق قبور عظام، لا زالت أطيافهم تلاحق غدر اللئام تقتل القهر وتبشر بالأمان. بعدها عد بنا أدراج الرياح، نمر على البحر لنشهد مجد الحضارات حروفنا الأولى وأوّل التجارات، رحلاتهم التي لا تشبه رحلاتنا فهي لم تعرف العار أو الخداع. أيا نجوم بشرينا بصبح الخلاص أو السقم لنعود من الفضاء إلى أرض الإيمان أو لمرتع الظلام. تعساً لبشرٍ خرّبوا ما بناه الإله أوّل الخير وأروع النهايات
سوزان ياسين