السيد علي مرتضى
جميلٌ أن يسعى الإنسان إلى رزقه، والأجمل من ذلك أن يكون سعيه هذا عن نيّةٍ خالصةٍ لله سبحانه وتعالى؛ ليتضاعف بذلك أجره. والكثير منّا يكدّ ليلاً ونهاراً لتحصيل لقمة العيش، له ولعياله. وإذا كانت الحياة قائمة على العمل والسعي والكدّ، فهل ترك الإسلام موضوع العمل دون أن يسلّط الضوء عليه؟ هل تركه دون أن يقنّنه وينظّمه ويوجّهه؟ هل ترك الأمور للناس لتدير شؤونها بنفسها، وتنظّم الأمور بما يراه العقلاء منهم؟ إنّ موضوع العمل من أهمّ القضايا التي أعطاها الإسلام كثير الاهتمام، ونظّمها بما يؤمّن حياة الإنسان، ويوصله إلى هدفه المنشود. وهذا ما سنحاول الإشارة إليه في هذه الكلمات.
* فطرة الله
لقد أودع الله سبحانه وتعالى في الطبيعة البشريّة عدّة غرائز تساعده في شقّ طريق الحياة للوصول إلى الكمال المنشود، منها غريزة طلب الراحة والفرار من الخطر والألم والاضطراب، وإذا أردنا أن نستكشف هذه الغريزة في مجال العمل، لوجدنا الإنسان لا يستقرّ ولا يطمئنّ إذا لم يكن قد حصّل قوت سنته، أو أمّن حياته ومستقبله، فنرى الإنسان من خوفه من المستقبل يسعى دائماً للبحث عن العمل، ليؤمّن مورد رزقه، وبالتالي، كي ترتاح نفسه وتستقرّ. وفي الحديث عن أبي الحسن عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّ النفس إذا أحرزت قوتها استقرّت"(1). وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: "قال سلمان رضي الله عنه: إنّ النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنّت"(2).
* أعظم أجراً:
وإذا كانت الفطرة الإنسانيّة تحثّ الإنسان على العمل لتستقرّ نفسه، فإنّ الإسلام أيضاً قوّم هذا العمل ووجّه هذه الفطرة كي تكون على الصراط السويّ، وكي لا تتنافى مع هدفيّة الخلق، فابتدأ بالنيّة التي هي الأساس في كلّ عمل، والمحور في محلّ القربى من الله سبحانه، ليقول للإنسان إنّ العامل لجلب الرزق للعيال كالمجاهد في سبيل الله، بل على بعض الروايات أعظم أجراً، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله"(3) ، وعن الإمام الرضا عليه السلام: "الذي يطلب من فضل الله عزّ وجلّ ما يكفّ به عياله أعظم أجراً من المجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ"(4).
* الغاية والوسيلة:
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدّة، والذي يبتلى به الكثير هو: هل أنّ مجرّد الحاجة تسوّغ وتجوّز للإنسان العمل أيّاً كان نوع العمل؟ وإذا كان الإسلام يحثّ على السعي في طلب الرزق، فهل هذه الغاية المنشودة تبرّر الوسيلة وبالتالي تجوّز لنا أيّ عمل نعمله لتحصيل هذا الرزق؟ قد يبدو الجواب سهلاً وواضحاً، وأنّه من الطبيعيّ جدّاً أنّ الإسلام حرّم بعض المعاملات، كالمعاملات الربويّة، والاتجار بالممنوعات والمحرّمات، وأنّ بعض الأعمال قيّدها ببعض الشروط، وهذا أمر موجودٌ في كلّ نظامٍ، فكيف بالنظام الشامل العامّ الناظر لكلّ أبعاد الحياة الإنسانيّة، وهو النظام الإسلامي؟!
* من حبائل إبليس:
لكن، ليس هذا هو المراد من البحث، فكثير من الأعمال محرّم بعنوانه الأوليّ، أي من الأساس هذه الأعمال محرّمة، ومن الطبيعي جدّاً أن يتجنّبها الإنسان المسلمُ ولا يقوم بها، كما أنّ الشيطان اللعين لا يدخل على المسلم من هذا الباب ليفسد عليه دينه، وإنّما يدخل عليه من باب الحلال من الأعمال والتجارات التي هي من الأساس محلّلة، بل والتي حثّ عليها الشارع المقدّس، ليبرّر له أعماله، وبأنّ عليه أن يرزق أطفاله وعياله، ويسعى لكسب معيشتهم.
* الرزق الحلال:
نعم، الله هو الرازق للعباد، وأنت أيّها الرجل أو أيّها الأب الوسيلة، وعلى يديك يجري الله رزقك ورزق عيالك. هذه هي النظرة الإسلاميّة للرزق، ولكن عليك أن تطلب الرزق الحلال، لا مطلق الرزق! تطلب المال الحلال، لا أيّ مال! ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ (المائدة: 88)، وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال، فيكفّ به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه"(5).
* هل نسأل؟
هل نسأل العلماء عن أحكام تجارتنا كما نسأل عن الصلاة والصيام؟ هل نسألهم عن أحكام ما نقوم به من عمل لنبرّئ ذمّتنا أمام الله؟ فقد ورد في الحديث عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول على المنبر: "يا معشر التجّار، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر. والله، لَلربا في هذه الأمّة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا أَيمانكم بالصدق (أي اصدقوا إذا حلفتم)، التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلا من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ"(6).
* حذارِ:
أيّها الأب العامل، انتبه أنت لست وحدك، فقد وضع الله سبحانه وتعالى في عنقك أمانات، وكلّفك بالمحافظة عليها ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...﴾ (النساء: 58)، ومن هذه الأمانات أولادك وزوجتك وكلّ من تعوله، وهم لا يسألونك من أين جئت بالمال؟ إنّ كلّ لقمة عيش تقدّمها لعيالك فأنت مسؤول عنها يوم القيامة، وإنّ اللحم الذي ينبت عليهم، والعظم الذي يشتدّ فيهم، هو من هذا المال الذي تقدّمه لهم، وهذا ممّا يشدّد عليك المسؤوليّة.
* مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال
فالأمر ليس بهذه السهولة والبساطة، وتحصيل اللقمة الحلال بحاجة لمشقّةٍ وتعب، ومن هنا كان "التاجر الصدوق الأمين مع النبيّين والصدّيقين والشهداء"(7). ومن هنا، كانت من أفضل العبادات التي يتقرّب بها إلى الله سبحانه، المحافظة على النفس، وعلى من يعوله، فعن أبي جعفر عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال"(8). وعن أبي جعفر الفزاري قال: "دعا أبو عبد الله عليه السلام مولى له يقال له مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: تجهّز حتى تخرج إلى مصر، فإنّ عيالي قد كثروا، قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلى مصر. فلمّا دنَوا من مصرَ استقبلتهم قافلةٌ خارجةٌ من مصرَ، فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة، فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً، فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلى المدينة، دخل مصادف على أبي عبد الله عليه السلام ومعه كيسان، في كلّ واحدٍ ألف دينار، فقال: جعلت فداك، هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال: إنّ هذا الربح كثيرٌ ولكن ما صنعته في المتاع؟ فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا. فقال: سبحان الله! تحلفون على قومٍ مسلمين ألا تبيعوهم إلا ربح الدينار ديناراً!! ثمّ أخذ الكيسين فقال: هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح. ثمّ قال: يا مصادف، مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال"(9). والله بصيرٌ بالعباد هذه قصّة مصادف، وما أكثر ما تتكرّر في واقعنا، فضلاً عن أشياء وأشياء أخرى، ولكن .. قلّ العاملون، وقلّ الذين يوقنون بأنّ الله بصيرٌ بالعباد.
وبملاحظة الكثير من الأدعية الواردة عن المعصومين عليهم السلام في طلب الرزق، نجد فيها ما يؤكّد على طلب الاستغناء بالحلال عن الحرام، وهذا ما اختم به مقالتي هذه، داعياً لنفسي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، "اللهم صلّ على محمّد وآله ... وأغنني بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمّن سواك..."(10) آمين ربّ العالمين.
(1) الكافي الشيخ الكليني، ج 5، ص 89، الحديث 2.
(2) م.ن، الحديث 3.
(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 88، الحديث 1.
(4) م.ن، الحديث 2.
(5) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ص 166.
(6) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج ،12 أبواب آداب التجارة، الحديث 1.
(7) ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 1، ص 328.
(8) الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 78، الحديث 6.
(9) م.ن، ص 162، الحديث 1.
(10) مصباح المتهجّد، الشيخ الطوسي، ص 56.