د. حسن سلهب
ينصرف التلامذة في هذه الفترة لقضاء أشهر الصيف خارج المدرسة. وقد اعتبرت الأنظمة والقوانين المدرسية الأشهر الثلاثة، تموز وآب وأيلول، بمثابة إجازة كاملة للتلامذة، يعودون بعدها إلى استئناف مسيرتهم العلمية، وبالتالي مباشرة سنة جديدة في سُلَّم التعليم، على مختلف مراحله ومستوياته.
1- الأيام الدراسية الحالية غير كافية
مع الاعتقاد القوي بضرورة تغيير التلميذ لأجوائه الرتيبة، فضلاً عن التأثيرات السلبية للمناخ الحار على إنتاج التلامذة، إلا أننا لا نجد تبريراً منطقياً لهذه العطلة الطويلة التي لا تتلاءَم مع الحاجة الفعلية للزمن العلمي المطلوب للإنسان، لا سيما وأنّ العطل خلال العام الدراسي تصل في بعض الأحيان إلى حدود الشهر والنصف، ناهيك عن العطلة الأسبوعية، ما يعني اقتصار الأيام الفعلية للأيام المدرسية في السنة الواحدة على 170 يوماً في أحسن الأحوال، أي ما يعادل أقل من ستة أشهر كل سنة. إذاً يمكن القول إنَّ الزمن المخصَّص للحياة المدرسية الفعلية لا يشكل ضغطاً ملحوظاً على عمر التلميذ، أو حاجاته المختلفة.
* هل تقيّد دروس الصيف حرّية التلميذ؟
في هذا السياق تبرز قضية متابعة بعض الأعمال العلمية خلال الصيف، حيث يُطلب من التلامذة إنجاز مجموعة من التمارين الخاصة بالمواد المدرسية العامة، تحت عنوان دفاتر العطلة الصيفية وغير ذلك، الأمر الذي يراه البعض تعدِّياً على حقوق التلميذ في الراحة، ومخالفةً للأصول المعتمدة في تنظيم الحياة العلمية للتلامذة. ولا يتردَّد هذا البعض بتوجيه اللوم والعتاب، وربما الإِتهام، للمدارس التي تسعى للإبقاء على القيود المدرسية خارج المدرسة، كما هو الحال في داخلها. وتأتي النسب المحدودة لتجاوب التلاميذ مع تعليمات الإدارة في هذا الخصوص لتقدِّم دليلاً فعلياً، برأي هؤلاء، على ضعف هذه التعليمات، وبالتالي عدم ملاءمتها للحياة الخاصة للتلميذ.
2- قواعد في الزمن العلمي
لا نريد مما تقدَّم الترويج لفكرة الأعمال أو الدفاتر الصيفية، كما لا نقلِّل من أهمية الملاحظات التي يوردها البعض عن التجارب في هذا المجال، لكننا نود التأكيد على جملة أمور تتصل بالسيرة العلمية للتلميذ والتي تشكل قواعد رئيسة في تحديد الزمن العلمي له.
* أولاً: مشكلة العطل الطويلة:
إنَّ الوقت المخصَّص في الأنظمة المدرسية لا يفي بمتطلبات المسيرة العلمية المطلوبة للتلميذ، والتي تفرض نمطاً من التعامل مع عمر التلميذ يحتاج معه إلى نسبة إضافية لا تقل عن ربع النسبة المعمول بها حالياً. وإن أعداد الأيام الدراسية في كثير من البلدان المتقدِّمة تؤمِّن هذه النسبة الإضافية، لا سيما في اليابان وألمانيا، بل إنَّ توزيع الأيام على مدار السنة يلحظ توازناً يمنع الوقوع في مشكلة العطل الطويلة. أما قضية المناخ الحار فيجب اعتبارها إحدى العوائق التي يجب تذليلها، كما هو حال المناخ البارد، أو العواصف الثلجية والصقيع.
* ثانياً: العلم أرقى المتع الشخصية:
يجب تعديل النظرة للحياة العلمية التي يعيشها التلميذ، لا سيما تلك التي تعتبر أن هذه الحياة نوعٌ ثقيلٌ على الحياة الخاصة به، فطلب العلم والسعي فيه وإنتاجه ليس خروجاً عن المنطق الطبيعي لطاقات التلميذ العقلية والنفسية والجسدية، والتلميذ الذي يقضي ساعات طويلة في البحث والدرس والفهم لا يمارس في ذلك جهداً استثنائياً في تركيبة خَلْقِه وتكوينه، بل إنها واحدة من أرقى المتَع الشخصية التي يمكن أن يعيشها إنسانٌ في هذه الأرض، وإن لم يكن الأمر كذلك فمن الضروري البحث عن الأسباب والعوامل. نعم لا يمكن للإنسان أن يحصر نفسه في عملٍ متواصل مهما كانت فوائده، كما لا يمكن للإنسان أن يفرِّغ وقته بشكل كامل حتى ولو كان في ذلك راحته ورفاهيته. وفي أي حال إن تَجديد النشاط يستلزم تنويعاً في نمط الحياة، على أن لا يصل الأمر إلى الإسراف كما هو الحال بالعطلة الصيفية.
* ثالثاً: العطلة الصيفية للفهم والتطبيق:
إننا عندما نؤكد على مواصلة الحياة العلمية للتلميذ، وتجنُّب الانقطاعات الطويلة، لا نعني بذلك الاستمرار بنمط معين، أو مضمون واحد لهذه الحياة، بل إننا حريصون على أن لا يكون نموذج الصف المدرسي هو النمط الدائم، ومضمون المناهج العامة هو المضمون الوحيد. ومن المفيد القول إنّ هذه الأوقات التي سُمِّيت بالعطلة - وهي تسمية غير موفَّقة - هي أفضل فرصة لتطبيق قواعد التعلُّم الذاتي، حيث يختلي التلميذ مع مادته العلمية، فيتفاعل معها، فهماً وتطبيقاً وإنتاجاً، بحيث تتحوَّل العطلة الصيفية من كونها تمثل أدنى نشاط علمي له، إلى أعلى نشاط علمي يمكن أن يصل إليه. وإذا كانت شروط ذلك غير متوافرة كلياً، إلا أنَّ أهمية الوصول إلى هذا النوع من النتائج تستحق موازنات سخية وجهوداً غير عادية.
3- العلم نمط حياة وحكاية حضارة
في أي حال إنها دعوة إلى عدم الانفصال الملحوظ عن العلم، وإعادة توزيع الأيام الدراسية بما يؤمِّن تواصلاً غير مقطوع بمسافات زمنية طويلة، فضلاً عن إضافة عدد الأيام الدراسية إلى ما لا يقل عن 200 يوم فعلي في السنة الواحدة. إنها دعوة إلى الانتقال بالمسيرة العلمية من كونها جزءاً أو هامشاً في الحياة إلى نمطٍ يطبع كل الحياة، وإن لم يهيمن عليها بالكامل. والعلم في الطفولة والفتوَّة هو الرديف الإرادي للنمو الطبيعي للإنسان في كل مجالاته. إنها دعوة لتطوير الطرق والمضامين بما يسهم في تأمين الشروط المطلوبة لتفاعل حقيقي ممكن وممتع بين التلميذ ومواده العلمية، وبالتالي تجاوز المراحل السابقة التي شكَّل فيها طلب العلم تحدِّياً لا يقوى على مواجهته إلا نماذج محدودة من البشر، موصوفة بصبرها الطويل، أو طاقاتها الذهنية النادرة. ليست رهبنة علمية، كما إنها ليست تفرُّغاً كاملاً للعلم، أو اختصاراً للحاجات العديدة بحاجة رئيسة واحدة. إنها نوعٌ من الاهتمام اللائق بالمضمون الإدراكي للإنسان، حيث يتحدَّد الكثير من معالم مستقبله ومصيره. وإذا كان الحديث النبوي الشريف يدفع باتجاه التعلُّم على مدى الزمان "أطلب العلم من المهد إلى اللحد"، ومن دون الاستغراق في المكان "أطلب العلم ولو في الصين"، فما بالنا اليوم نقبل بأقل من الزمان كل الزمان، ونختصر المكان في بعض المساحات الرسمية للتعليم؟ كلُّ ذلك ونحن لا نزال نتساءَل منذ قرنين من الزمان: لماذا تقدَّم الغرب وتأخر المسلمون؟! إنها حكاية الزمن العلمي الفعلي التي يمكن أن نهدر فيها قروناً عديدة ولكن نبقى في سن الطفولة.