بسطتُ للإخوة المحترمين مراراً أن يقدروا نعمة الشباب حق قدرها، وأن لا يهدروها. لا أقول أن لا يكون للشباب وقت للابتهاج، وإنّ عليه أن يكون مشغولاً على الدوام، بل أقول إنّه على الشاب أن ينظّم أوقاته، ويجعل معظمها في سبيل التّحصيل العلمي. فلا تتوهّموا أنكم إذا ضاعت منكم أيام الشباب يمكن أن تؤدّوا عباداتكم أو تحصّلوا العلوم في آخر العمر، فالإنسان لن يستطيع في آخر عمره لا العبادة ولا التعلّم، لأن طاقته الذهنيّة لن تكون حينها قويّة أو مستقيمة ليتمكّن من إدراك المطالب العلميّة. فعليكم، في عمر الشباب، أن توطّدوا المباني العلميّة والفقهية. وفي ذلك الوقت أي آخر العمر سوف تورق هذه المعارف وتزهر، وتستفيدون منها. ولكن إذا تركتم هذه النعمة تضيع هدراً، فإنكم لن توفّقوا بعدها.
* صفوة الخلق
هنالك أمر آخر مهم جداً بالنسبة للإنسان نفسه، وهو أن يلتفت إلى أنه صفوة الخليقة وأنه ذو جوانب وأبعاد وخواصّ مختلفة، بعضها يشارك فيها النباتات، فكما أن نمو النبات يعتمد على الماء والغذاء من الأرض، كذلك يعتمد نموّ الإنسان على النعم والبركات التي أودعها الله تبارك وتعالى في هذه الأرض. وبعض خواصّه يُشارك فيها الحيوانات وإدراكات يسيرة كما للحيوانات، وللإنسان مرتبة (مثالية) وأمور يختصّ بها منها: التعقّل، والجوانب المعنوية والتجرّد الذاتي وهي ليست موجودة عند الحيوان.
* كتاب بناء الإنسان
أما القرآن الكريم فهو الكتاب الذي يتصدر الكتب السماوية التي جاءت في الحقيقة لبناء هذا الإنسان، وتحويله من إنسان بالقوة إلى إنسان بالفعل. هو كتاب لبناء الإنسان. وإذا ارتبط به الإنسان، وجده ضامناً لجميع المراتب الخاصّة به، فكلها فيه ومنه. والأنبياء بدعوتهم قد بعثوا لتحقيق هذا الغرض حسب اختلاف مراتبهم طبعاً وهو تحويل الإنسان إلى إنسان حقيقي من (القوة) إلى (الفعل) فكانت جميع العلوم والعبادات والمعارف الإلهية والأحكام العبادية وكل ما هو موجود، إنما يراد بها تحقيق هذا الأمر، وهو تحويل الإنسان الناقص إلى إنسان كامل.
* حكومة لا تعترض الجور
الإسلام وسائر الأديان الإلهية تختلف عن سائر الحكومات. حكومة الإسلام ليست كسائر الحكومات، فسائر الحكومات ماديةٌ مهما كان نظامها. فهي تهتم بحفظ النظم في بلدانها، وإذا كان في ظلها من يتوخّون العدالة، ولا يظلمون أحداً ولا يعتدون عليه، وإذا حكموا عدلوا، ولم يتعدّوا على الآخرين، فإنّهم لا يبتغون غير حفظ النظم في بلادهم فقط. لذا، كان لكلّ أحد أن يفعل داخل منزله ما يشاء بشرط أن لا يضرّ الحكومة، ولا يمس النظام. بإمكانه أن يشرب الخمر داخل منزله، أو يرتكب ما أراد من القبائح، فإنّ الحكومة لا تتعرّض له. أما إذا خرج معربداً، فإنّ الحكومة تعترضه لما في ذلك من الإخلال بالنظام. أما ما يفعله داخل جدران منزله، فليس من شأنهم سواء في ذلك الحكومة العادلة أم الجائرة، إلّا إذا حصل اعتداء داخل المنزل، وعرضت القضية على الحاكم، حينها يتدخّل الحاكم ويتصرف في الأمر.
* أحكام تشمل كل الحياة
والحال أنّ الإسلام والحكومات الإلهية ليست كذلك، فهي تطرح حكمها في كل مكان، وعلى كل أحد أينما كان، وإذا أراد أحد القيام بعمل مناف أو فساد ما حتى داخل منزله، فإن الحكومة الإسلامية لا ترضى بذلك. وإن كانت الحكومة لا تأتي للتفتيش لأنّ الأمر بحد ذاته محرّم، إلّا أنها تعطي حكماً بعد القيام بذلك العمل، وتحدّد العقاب لمن يرتكبه، وإذا تم اكتشافه فإن لديها الأساليب المختلفة من أنواع الحدود والردود التي تعتمد على الموازين الموجودة في الشريعة.
الإسلام وسائر الحكومات والدعوات الإلهية تعتني بجميع شؤون الإنسان بدءاً من أدناها حتى أعلاها، لا مثل الحكومات الأخرى التي تهتم فقط بسياسة الملك. فكما أن الإسلام ذو سياسة للبلاد، وأغلب أحكامه أحكام سياسية هو ذو أحكام معنويّة، فيه حقائق ومعنويات والأشياء الداخلة في تربية الإنسان محكومة بضوابط معنوية، أقول: تعتني أحكام الإسلام بالرشد المعنوي للإنسان، وبتربيته روحياً. فالإسلام يحدّد أحكام العلاقة بين المسلمين والآخرين، وفيه أحكام لعلاقة الإنسان مع نفسه، وأحكام لعلاقة الإنسان مع زوجته، ومع ولده وجيرانه، ومحلّته وأصحابه، ولعلاقته مع مواطني بلده، ولعلاقته مع من يعتنقون نفس ديانته، ومن يعتنقون غير ديانته، أحكام تشمل كل الحياة حتّى ما بعد الموت، بل تتبع الإنسان إلى القبر وما بعد القبر.
كل ما يتعلّق بتربية الإنسان، إلى أن ينفصل عن هذا العالم ويبلغ مرتبة الكمال ومرتبة التجرّد المرتبة الأصلية ثم بعد تسليمه إلى القبر وبدء حياته الروحية والمعنوية وكل ما هو أرقى. كل ذلك من اختصاص الإسلام، فالإسلام وأحكامه التي بعث الله تعالى بها الأنبياء والرسل لا تقتصر على هذا العالم فقط، ولا العالم الآخر فقط.
* الإسلام يبني الإنسان
إنّ الإسلام يبني إنساناً ساعياً للعدالة وناشراً لها، إنساناً يتحلّى بأخلاق كريمة، ويحمل معارف إلهية تؤهّله أن ينسجم مع واقع الحياة في العالم الآخر بعد رحيله من هذا العالم، فهو آنذاك يكون قد أصبح آدمياً بحق. هؤلاء الذين يرون جانباً واحداً من الإسلام دون غيره ناقصون ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: 6 7). ورد في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله "أنا ذو عينين" أي: متوجّه نحو المعنويات والماديات معاً، وأنتم ترون كيف أن أحكام الإسلام وسياساته تشهد على ذلك.
(*) كلمة ألقاها الإمام الخميني قدس سره أمام طلاب وعلماء الحوزة في النجف الأشرف في تاريخ 14 شوال 1397هـ.ش.