الشيخ كاظم ياسين
يقف الإمام الصادق عليه السلام على ثرى الطّفّ ليسلم على الشهداء، فيقول: "السلام عليكم يا أنصار الله.. يا أنصار رسول الله.. يا أنصار أمير المؤمنين... يا أنصار فاطمة الزهراء... يا أنصار أبي محمد الحسن... يا أنصار أبي عبد الله... بأبي أنتم وأمي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم وفزتم والله فوزاً عظيماً، فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم فوزاً عظيماً". فمن هم هؤلاء الذين يسلّم عليهم الإمام الصادق عليه السلام ويفديهم بأبيه وأمه، ويتمنى أن يكون معهم؟ ولماذا حصلوا على هذه المنزلة؟ ما فضلهم؟ وما هو قدرهم بالنسبة إلى قدر أصحاب القائم عجل الله فرجه؟
* رجال الثورة الحقيقيون
كما سوف يمحَّص أنصار الإمام المهدي عجل الله فرجه ويغربَلون قبل ظهوره، فكذلك محّص الله تعالى أنصار الإمام الحسين عليه السلام، فقد روي أن الحسين عليه السلام كان لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى موضع يقال له "زبالة" أتاه كتاب، فأخرجه للناس فقرأ عليهم: "بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام"، فتفرّق النّاس عنه تفرقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة (1). وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنما اتّبعه الأعراب لأنّهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكَرِه أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علامَ يقدمون، وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه (2). إذاً، فقد بقي رجال الثورة الحقيقيون وحدهم بعد أن انجلى الموقف وتبيّن المصير. وقد كان هذا الإعلان الذي سمعه الناس من الحسين في مكان "زبالة" هو الاختبار الأول في هذه المسيرة، وقد أدى إلى تفرّق الكثيرين الذين رافقوه عن رغبة وطمع، وبقي معه هؤلاء الرجال النادرون الذين عرفوا على مرّ التاريخ باسم (أنصار الحسين).
* ليلة العاشر من المحرّم
مرّ هؤلاء الأنصار في اختبار ثان حين حثّهم الحسين على النجاة بأنفسهم في ليلة العاشر من المحرم. في تلك الليلة أحلّ الإمام الحسين عليه السلام أصحابه من بيعته وطلب منهم الانسحاب على أن يسحبوا معهم أهل بيته إلا أنهم رفضوا جميعاً هذه الفرصة وصمّموا على القتال، وآثروا البقاء معه إلى النهاية، والاستشهاد معه... واستشهدوا جميعاً. يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: جمع الحسين أصحابه عند قرب المساء، فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه: أما بعد ! فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعا خيرا ً(3). ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً (4). فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك؟؟ لا والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي. ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك !! وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك. والله لو علمت أني أُقتل ثم أحيا ثم أُحرق حياً ثم أُذرّ، يُفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟ وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أُقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك (5).
* "والله لا نفارقك"
وقيل لمحمد بني بشير الحضرمي، وهو مع الحسين في كربلاء: قد أُسر ابنك بثغر الري. فقال: عند الله أحتسبه ونفسي. ما كنت أحب أن يؤسر ولا أن أبقى بعده. فسمع قوله الحسين عليه السلام فقال له: رحمك الله أنت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك. فقال: أكلتني السباع حياً إن فارقتك (6). وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً، فقالوا: والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قُتلنا كنا وَفيْنا وقضيْنا ما علينا (7). وقول الإمام عليه السلام المعصوم الذي وهبه الله علم ما كان وما يكون إلى قيام الساعة: "لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي"، على إطلاقه، يفيد أن أنصار الإمام الحسين عليه السلام من أهل بيته وصحبه على مرتبة من الشرف والسموّ ورفعة المقام بحيث لم يسبقهم إليها سابق ولا يلحق بهم لاحق. ويؤكّد ذلك ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام فيما رواه عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، حيث قال: "خرج عليّ يسير بالنّاس، حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يُقال له المقذفان، فقال: قُتل فيها مائتا نبيّ ومائتا سبط كلّهم شهداء، ومناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم"(8).
* قرابين في سبيل الله
فأنصار الحسين عليه السلام مثّلوا أعلى ذروةِ نوعية في سجل الشهادة والشهداء في تاريخ الإسلام كله، فقد صمّموا على نيل الشهادة في حالة من الهزيمة للأمّة أمام قوى الطغيان، ومن كراهية للموت في سبيل الله. وهذا ما يميّزهم عن شهداء العهد النبوي الذين صمموا على نيل الشهادة في حالة من اندفاع الأمة كلها نحو مواجهة قوى الطغيان ومن عشق للموت والشهادة في سبيل الله. كذلك قدّم أنصار الحسين أنفسهم قرابين من أجل الآخرين، في وقت كان موقف هؤلاء الغالب هو موقف الخذلان وفي النادر موقف الأسى السلبي. ومن خصائص أنصار الحسين عليه السلام أنّهم رأوا جزاء ثباتهم وشجاعتهم وإصرارهم على التضحية مع ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث كُشف لهم الغطاء ورأوا منازلهم في الجنة، فكانوا أهلاً لهذا الكشف المبين وأحقّ به. روي عن أبي عبد الله عليه السلام: "إنهم كُشف لهم الغطاء حتى رأوا منازلهم من الجنة، فكان الرجل منهم يقدم على القتل ليبادر إلى حوراء يعانقها وإلى مكانه من الجنة"(9). وفي زيارة الناحية المقدسة: "أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء، ومهّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء..." (10). و"قيل لرجل شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرّية رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقال: إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا. ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتُلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال... ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة أو الاستيلاء على الملك. فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها. فما كنا فاعلين لا أمّ لك؟"(11). وقال الإمام الصادق عليه السلام: "لمّا ضُرب الحسين بن علي عليه السلام بالسيف ثمّ ابتُدر ليُقطع رأسه نادى منادٍ من قِبل رب العزّة تبارك وتعالى من بطنان العرش فقال: ألا أيّتها الأمة المتحيّرة الظالمة بعد نبيّها، لا وفّقكم الله لأضحى ولا فطر"، ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: "لا جرم والله ما وفّقوا أبداً حتى يقوم ثائر الحسين عليه السلام " (12).
* أنصار الحجة عجل الله فرجه
عن الإمام الصادق عليه السلام: "لما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان ضجّت الملائكة إلى الله بالبكاء، وقالت: يُفعل هذا بالحسين صفيِّك وابن نبيِّك؟ فأقام الله لهم ظلّ القائم عجل الله فرجه وقال: بهذا أنتقم لهذا" (13). فأنصار الحجة المنتظر عجل الله فرجه يملكون نفس الخصائص والصفات التي يمتلكها أنصار الحسين عليه السلام. فهم عبّاد الليل وليوث النهار "يبيتون قياماً على أطرافهم ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار" (14). وأصحاب الحسين عليه السلام قضوا ليلة العاشر من المحرّم بالصلاة والدعاء حتى إذا انبلج الصبح اعتلوا جيادهم واتجهوا لنيل شرف الشهادة. أنصار الحجة عجل الله فرجه ذوو يقين وبصيرة: "كالمصابيح كأنّ في قلوبهم القناديل وهم من خشيته مشفقون". وفي الرواية: "له كنز بالطالقان لا هو بذهب ولا فضّة، ورايةٌ لم تنشر مذ طويت، ورجالٌ كأن قلوبهم زبر الحديد لا يشوبها شكّ في ذات الله أشدُّ من الجمر". ونرى هذه الصفة في كربلاء من خلال بعض الأصحاب الذين تقدّموا ليعظوا القوم ويذكروهم بالآخرة وسوء ما يقدمون عليه ومكانة الحسين عليه السلام وأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله فيه، ومن خلال قول عمرو بن الحجاج فيهم: أهل البصائر. وأنصار الحجة عجل الله فرجه يعشقونه: "يتمسحون بسرج الإمام يطلبون بذلك البركة". أنفسهم فداءٌ لنفسه: "ويحفّون به ويوقونه بأنفسهم في الحروب" (15). وفي كربلاء عندما عرض الإمام الحسين عليه السلام على أنصاره التخلّي عن بيعته قالوا له: لم نفعل؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً (16).
* شعارهم ودعاؤهم
وشعار أصحاب الإمام المهدي عجل الله فرجه: "يا لثارات الحسين عليه السلام " (17)، وهم المطيعون لإمامهم: "هم أطوع من الأَمَة لسيّدها". وعندما قال الحسين عليه السلام لأصحابه: إنكم تُقتلون غداً كلكم ولا يفلت منكم رجل، قالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرفنا بالقتل معك، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله؟ وأنصار الحجة طلاب شهادة: "يدعون بالشهادة ويتمنّون أن يقتلوا في سبيل الله، شعارهم يا لثارات الحسين". وهم ذوو قوة ومهابة: "إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر". وهم أهل شجاعة وإقدام: "ولو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براياتهم بلدةً إلا خربوها كأنّ على خيولهم العقبان". ومن خصائص أنصار الحسين عليه السلام شجاعتهم الفائقة، وبصيرتهم، ففي رواية وصف فيها رجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد أصحاب الحسين عليه السلام بالقول: "ثارت علينا عصابة أيديهم على مقابض سيوفهم كالأسود الضارية تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، والله لو كففنا عنها رويداً لآتت على نفوس المعسكر بحذافيره" (18).
(1) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 75.
(2) تاريخ الطبري، الطبري، 398 و399.
(3) الإرشاد، م.س، ج2، ص91.
(4) تاريخ الطبري، م. س، ج 4 ص 317.
(5) الإرشاد، م. س، ج 2 ص 91 93.
(6) ترجمة الإمام الحسين، ابن عساكر ص 221.
(7) تاريخ الطبري، ج 4 ص 317 و318.
(8) بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 41 ص 295.
(9) علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج 1 ص 229.
(10) بحار الأنوار، م.س، ج 45 ص 73.
(11) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 3، 307.
(12) أمالي الصدوق، ص 142.
(13) الكافي، الكليني، ج 1، ص 465.
(14) بحار الأنوار، م.س، ج 52، ص 308.
(15) الإرشاد، م.س، ج2 ص91.
(16) بحار الأنوار، م.س، ج52، ص307.
(17) الإرشاد، م.س، ج 2، ص 103.
(18) شرح نهج البلاغة، م.س، ج3، ص263.كله