نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الاعتكاف: نفحة رحمانيّة في أيّام الله

تحقيق: فاطمة خشاب درويش


هي لحظات غالية تلك التي يختطفها الإنسان لعبادة ربِّه بصفاء ذهني ونقاء قلبيّ وإخلاص في العبادة. فوسط الانشغالات الدنيوية التي لا تنتهي يشعر المسلم بحاجة ماسة للقاء الحبيب الأول والأخير. ففي كلِّ واحدٍ فينا صوت خفي عميق ينادي خالقه شكراً وحمداً وتسبيحاً. في هذا الشهر الكريم يعطينا الله عز وجل فرصة ذهبية لتنقية نفوسنا من الشوائب النفسية. والنتيجة مضمونة سلفاً لصالح الإنسان: المغفرة وقبول الأعمال. إذا كانت هذه بركة الشهر الكريم فكيف ببركة الاعتكاف في بيوت الله في هذه الأيام المباركة؟ في هذا التحقيق نستعرض تجارب عدد من المعتكفين لنتبيّن الآثار الروحية والمعنوية والتربوية للاعتكاف كما نطل على مفهوم الاعتكاف، أقسامه، فلسفة أحكامه، وشرائطه من الناحية الشرعية والفقهية.

الاعتكاف سنّة نبوية
يستهل مدير مركز التخطيط للمناهج الدراسية الحوزوية في حوزتي الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والسيدة الزهراء عليها السلام سماحة الشيخ حسن الهادي كلامه بالتأكيد على أنَّ الاعتكاف هو سنّة نبوية, فمن الأمور الأساسية الملفتة والثابتة في حياة النبي صلى الله عليه وآله أنه كان ينطلق من المسجد في كثير من الأعمال والقرارات واللقاءات. ففي الرواية عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام "كان رسول الله إذا كان العشر الأواخر (من شهر رمضان) اعتكف في المسجد وضُربت له قبة من شعر وشمّر المئزر وطوى فراشه"(1). ويوضح الشيخ الهادي أن فعل النبي هذا هو نوع من السنّة هدفه تعليم الناس وإبراز جانب الاقتداء بنبينا لافتاً إلى أنَّ الإنسان المسلم لا يمكن له أن ينطلق ويستمر في أعماله وتديّنه وحياته بدون هذا الزاد الروحي الذي يأخذ بأفضل الأوقات والساعات في شهر رمضان وفي المكان الأقرب من الله عزّ وجلّ ضمن برنامج عباديّ منظّم. فالمؤمن يحتاج إلى محطة للتأمل وتقييم نفسه وتديّنه، ويحتاج لهذه الغاية إلى عدّة جلسات لتحقيق الهدف، خاصة وأن طبيعة حياتنا ومجتمعنا لا تساعد على تعزيز هذا الجانب.

ثقافة الاعتكاف وتطورها
على مستوى التقييم العام يرصد الشيخ الهادي تواصلاً في حركة الاعتكاف في مجتمعنا الإسلامي وتطوراً من عام إلى عام. فثقافة الاعتكاف أصبحت تحتل موقعاً مهماً في حياة مجموعات مختلفة من الشرائح الاجتماعية من شباب وكبار السنّ. وصحيح أنَّ الرجال يعتكفون إلا أنَّ النساء يساعدن في تأمين مستلزمات المعتكفين وبعض الخدمات الأولية تتولى عادة لجان المسجد تأمينها. وفيما يتعلَّق بموضوع البرامج دعا الهادي إلى وضع برامج ثقافية عبادية مركزة للاعتكاف؛ لأنَّ الإنسان العادي ليس بمقدوره أن يضع برنامجاً متكاملاً ومركَّزاً. والخطورة في الموضوع أن غياب البرنامج قد يسمح للملل بأن يتسرب إلى نفوس المعتكفين. وهذا البرنامج من المفترض أن يشمل مستويات مختلفة: تتعلَّق بآداب العبادة والجوانب المعنوية لها: آداب القرآن الكريم، التعرف إلى جوانب الأنس بكتاب الله، العلاقة بأهل البيت عليهم السلام والأدعية والزيارات، هذه كلها برامج يمكن أن تُهيّأ بعدة أساليب وأدوات وتقدّم خلال الاعتكاف بشكل منتظم وجيد. وهذا ما يُعمل عليه حالياً.

فرصة العمر لتهذيب النفس
الحاج عادل دياب يتحدث عن تجربته التي بدأت منذ أكثر من عشر سنوات في مسجد كيفون الذي يبعد عن المدينة وصخبها ومشاغلها. يرى الحاج دياب أنَّ التجربة حملت الكثير من الزاد للنفس والذات، فالاعتكاف يكاد يكون الفرصة الوحيدة خلال العام للعيش في خلوة مع الله سبحانه وتعالى أقلها ثلاثة أيام. إن للاعتكاف لذة قد لا يجدها الإنسان في عبادة أخرى. فالإنسان يعيش نفس الأجواء التي يعيشها أثناء تأديته فريضة الحج. ففي كل لحظة طيلة الاعتكاف يعيش الإنسان حالة الإخلاص لله والقربى، فلا ملل، خاصة في ظل البرنامج العبادي المتكامل. وعن الحالة النفسية التي يعيشها بمجرد الدخول إلى المسجد ذكر أنه يضع كل همومه ومشاغله الحياتية وراء ظهره ويتركز تفكيره بهذه اللحظات التي سيناجي بها ربه. ويذكر الحاج دياب حالة الذوبان الروحي التي يعيشها الإنسان في المسجد، فلا فوارق اجتماعية ولا طبقية. فالغني والفقير سيّان لا فرق بينهما إلا بالتقوى. ويقول: عندما تنتهي فترة الاعتكاف أشعر بأن قلبي وجسدي معلقان بجدران المسجد وأحاول أن استوعب الأمور من جديد وانتقل من عالم مليء بالروحية العالية والبركة الربانية إلى عالم يقوم على الماديات والأمور الحياتية ويشير إلى أن أهم أثر للاعتكاف أنه يساعد المرء على تأدية الفرائض بخشوع وتركيز أكبر خاصة الصلاة.

مفهوم الاعتكاف
الاعتكاف من الناحية الفقهية هو نوع من اللبث أو المكث في المسجد بمعنى البقاء بقصد القربى من الله سبحانه والتزاماً بطاعته. وهو مستحب بأصل الشرع. وقد اتفقت كلمة المسلمين على أن الاعتكاف من السنن المستحبة. ويمكن أن يؤدّى في كل وقت يصح فيه الصوم. وأفضل أيامه في شهر رمضان المبارك ولا سيما في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم. ويشترط لصحة الاعتكاف النية والإخلاص، فحضور القلب ضروري، فلا يجوز أن يقوم به الإنسان هرباً من مشاكله وضغوطاته الحياتية فيكون الهدف الابتعاد عنها وليس القرب من الباري عزّ وجلّ. والاعتكاف في فقه الشريعة قسمان واجب ومسنون والواجب ما وجب بنذر أو عهد والمسنون هو المستحب الذي يؤدّى في شهر رمضان أو غيره من الشهور.

أحكام الاعتكاف
على مستوى أحكام الاعتكاف هناك شرائط لا بد من الالتزام بها حتى يصح الاعتكاف وهي:

1- أن يكون المعتكف عاقلاً فلا يصح من المجنون
2- النية ابتداء واستمراراً خلال فترة الاعتكاف,
3- فترة الاعتكاف وأقلها ثلاثة الأيام فلا يجوز أن تقل مدة الاعتكاف عن ثلاثة نهارات تتوسطها ليلتان ومن الممكن أن يستمر الاعتكاف إلى عشرة أيام.
4- الصيام لأن الصيام شرط من شروط الاعتكاف لا يصح بدونه. ولهذا، الذين يذهبون إلى مكة المكرمة للاعتكاف ينوون الإقامة حتى يصوموا ويصح الاعتكاف.
5- المكث في المسجد فلا يجوز الخروج إلا للضرورة القصوى.
6- أن يترك الإنسان كل ما يجب على المعتكف تركه وهي ستأتي فيما يلي.

جلسة الأنس بالمعشوق
يتحدث السيد حسين مرتضى وهو من جرحى المقاومة الإسلامية بكثير من الأهمية عن الاعتكاف والمسجد، فهو يعيش حالة وجدانية وروحانية عالية في بيت الله وخاصة في شهر رمضان المبارك وتحديداً في العشر الأواخر. بدأت تجربة السيد مرتضى في الاعتكاف منذ بضع سنين وهي برأيه تكبر بما يحصّله الإنسان من بركات وقربى ربانيّة. يترك السيد عائلته ويذهب إلى المسجد الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة. يزوره أولاده أيام الاعتكاف فيما تتولى زوجته إعداد الطعام والمستلزمات الضرورية للمعتكفين. فالعائلة بأكملها تعيش أجواء الاعتكاف من خلال التضامن والتكاتف فيما بينها على قاعدة توزيع الأدوار. فالاختلاء بالحبيب والأنس به يجعل النفس شفافة طاهرة ورقيقة ومقبلة على الله عز وجل. ويعتبر السيد مرتضى أن الإنسان يستفيد من بركة الاعتكاف حتى ولو لثلاثة أيام فقط. فهذه الفترة على قصرها تعتبر ركيزة وأساساً في حياة الإنسان تغيّر مجرى حياته وتساعده على القيام بنقلة نوعيّة مرغوبة في جنب الله عزّ وجلّ، كما تؤسّس لما يأتي من الأيام، لأن المعتكف يكتب سعيداً في الدنيا والآخرة. ويذكر السيد مرتضى أن الناس في الجمهورية الإسلامية الإيرانية يبدأون بتسجيل أسمائهم للمشاركة في الاعتكاف مع بداية شهر رجب صغاراً وكباراً، مشيراً إلى ضرورة العمل على إشاعة هذه السنّة النبوية في مجتمعنا الإسلامي وخاصة بين الناشئة والشباب لما لها من ثمرات وبركات ربانية.

ما يحرم على المعتكف
1- مباشرة النساء بالجماع أو دون ذلك من الاستمتاع بالتقبيل واللمس أيضاً.
2- الاستمناء.
3- شم الطيب.
4- التلذذ بما للرياحين من رائحة طيبة كالورد والياسمين.
5- الجدل والمماراة.
6- البيع والشراء.

جردة سنوية ومحطة للانطلاق
من جهته يشير الشيخ عماد الشرتوني -وهو طالب علوم دينية- إلى أن إقدامه على خوض تجربة الاعتكاف جاء بفضل التردد المستمر على المسجد وكان ذلك عام 2002 بمبادرة فردية من بعض الأخوة. وفي كل عام تكبر تجربة الاعتكاف ويزداد عدد المعتكفين حتى وصلنا اليوم إلى وقت نسجل فيه أسماءنا مع بداية شهر رمضان. وعن الأسباب التي دفعته إلى الاعتكاف يعتبر الشيخ عماد أن هناك حاجة فعلية للتفرغ للعبادة في ظل مشاغل الحياة والعمل الكثير. فالمرء مشغول عن محاسبة نفسه وتهذيبها. هذه الفرصة تتيحها تجربة الاعتكاف فهي بمثابة دورة تدريبية روحية نضع من خلالها خطة لحياتنا بقدر ما نريد. الاعتكاف هو جردة سنوية للإنسان يراجع فيها ما يصنع ويسعى إلى تحسين تصرفاته وبناء الذات.. ويصف الشيخ الشرتوني الاعتكاف بأنه حج مصغر فكلاهما هجرة إلى الله عزّ وجلّ بعدها ينطلق المسلم في الحياة وهو محصن بالقناعات الإيمانية والرحمة الإلهية. ومن أبرز بركات الاعتكاف برأي الشيخ عماد أنه يوفق بفضله إلى ختم القرآن الكريم وإحياء ليالي القدر والمحافظة على وقت الصلاة وصلاة النوافل وصلاة الجماعة والتعرف إلى أخوة جدد يتحابون في الله. وينصح الشيخ عماد الشباب أن يقدموا ويعتكفوا لما للاعتكاف من ثمرات وبركات لا يمكن حصرها أو عدها.

ثمرات الاعتكاف
يختم سماحة الشيخ حسن الهادي بالحديث عن الآثار النفسية والتربوية التي تترتب على عبادة الاعتكاف ويضع في أول الحصاد صلاح القلب والسريرة. كما يتيح الاعتكاف فرصة تعزيز العلاقة العاطفية بالله وقوامها مفهوم العبودية الحقة لله عزّ وجلّ. هذا ويساهم الاعتكاف في تربية الإنسان على الصبر والإرادة وضبط النفس. كما أن وجود المعتكف في المسجد يعرّفه أكثر إلى أهمية بيوت الله التي من المفترض أن تكون الملجأ الأول للمسلمين، ففي بيت الله البساطة والانطلاق دون تكلف كما إن العزلة المؤقتة عن الناس تتيح فرصة مراجعة الناس ومحاسبتها واختبارها وتقييمها تقييماً كاملاً ليعود بعد ذلك إلى حياته الطبيعية وقد تخلص من الكثير مما اعتاده سابقاً مما لا ينسجم مع ثقافتنا الإسلامية.فهنيئاً لمن يوفق للاعتكاف وينعم بعبق الحب الرباني ويتفيأ بالرحمة الإلهية الوارفة في بيت الله وفي ضيافة الله وفي شهر الله.


 (1) تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج6، ص240.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع