التمسُّك بالقرآن وصيّةُ نبيِّنا الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي
تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل
بيتي"(1). وأحد أوجه التمسُّك بكتاب الله سبحانه، حفظه في الصدور، فضلاً عن
تلاوته وترتيله؛ إذ حفظ القرآن الكريم وتكرار آياته يملآن القلب والعقل بنور هدايته
تعالى، وعاملان أساسيّان في طريق تدبُّر هذا الكتاب الإلهيّ. من هنا، كان لحفظ كلام
الله سبحانه أهميّة كبرى.
في هذا التحقيق، حاولنا تلمُّس ذلك النور الذي في الصدور، وأثر تعهد القرآن الكريم
تلاوةً وحفظاً على أصحابه، مع عرض موجز لجهود المؤسّسات الدينيّة في هذا السبيل.
* القرآن غيّرني
السيّدة حوراء. م (39 عاماً)، (أستاذة مادّة علوم القرآن وتفسيره في الحوزة
العلميّة، مجازة في تلاوة القرآن الكريم)، على علاقة خاصّة بالقرآن الكريم، كانت
كفيلة في تغييرها؛ إذ تقول: "القرآن الكريم مصباح متوهِّج ينير درب حياتي. تبدأ
قصّتي مع القرآن الكريم عندما كنت في السابعة عشرة من العمر، فقد وجدت نفسي منجذبة
لقراءته بتدبُّر، حتّى أصبح ذلك خبزي اليوميّ، فلم أعد أستطيع العيش دونه...".
1- القرآن رفيق حياتي
"لقد شملني التوفيق الإلهيّ، بأنْ أصبح منهجي وفكري متماهيَين مع ما يدعو إليه
القرآن الكريم، حتّى أصبحت آياته الكريمة حاضرة في أغلب مواقفي، ترشدني وتهديني في
معترك الحياة"؛ تقول السيّدة حوراء.
2- الإخلاص: دعوة القرآن
وتضيف: "دعتني آيات القرآن الكريم إلى الإخلاص في كلّ أعمالي، وأن يكون الله سبحانه
حاضراً في كلّ ما أقوم به... فهذه الآيات: ﴿قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (التوحيد: 1)، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ
إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً
يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7-8)،
أصبحتْ جزءاً منّي، وصرت أعمل على قاعدة ﴿وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ
يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ (النجم: 39- 41)، و﴿إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 156).
3- القرآن وهبني السكينة
أمّا عن التأثير الروحيّ للقرآن الكريم، فتبيّنه السيّدة حوراء بقولها: "كنت في
السابق سريعة الانفعال والغضب، وكثيراً ما أحمل على من ظلمني، لكنّ نور
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾
(النور: 22)، ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (البقرة: 237)،
أطفأ اشتعال قوّتي الغضبية...".
وتختتم السيّدة حوراء كلامها: "أنا بدون القرآن لا شيء، لا قيمة لي في الحياة، لا
أعرف ماذا أفعل فيها. الدنيا معتمة مظلمة بلا نور القرآن، الحمد والشكر لك يا ربّي
على هذه النعمة الكبرى".
* حفظة على طريق النور
1- حفظ القرآن والتفوّق العلميّ
يبلغ علي صادق ونوح مرعي من العمر 23 سنة، ترافقا سنين الطفولة معاً، وقرّرا أن
يكونا من الأوائل الذين يشاركون في المشروع الأوّل لجمعيّة القرآن الكريم في حفظ
كامل القرآن عام 2004م. والحمد لله، كان لهما ما أرادا.
عن تجربتهما مع القرآن الكريم، اتفق الاثنان على أن حفظ القرآن الكريم قد ساعدهما
في تحسين نشاطهما العقليّ، وإيقاد ذهنَيهما، مضافاً إلى تقوية الذاكرة؛ الأمر الذي
ساعدهما في التفوُّق العلميّ في دراستهما الأكاديميّة. فهذا عليّ يخبرنا أنّه ونوح
كانا يحلّلان الأمور أكثر من زملائهما في الصفّ، كما أنّ لغتهما العربيّة قد
تحسّنت، وكذلك قدرتهما على كتابة المواضيع الإنشائيّة.
2- احترام حافظ القرآن
أمّا عن نظرة المجتمع إليهما، فيخبرنا نوح أنّها باتت مختلفة؛ إذ ينظر الناس إليهما
نظرة احترام وإجلال، كما لو أنّهما متخصّصان في العلوم الإسلاميّة، خصوصاً بعد أن
التحقا بالحوزة العلميّة. وأمّا عن سلوكهما، فقد صارا أكثر اتزاناً واحتياطاً في ما
يخصّ المسائل الدينيّة.
3- القرآن خيرُ برهان
يخبرُنا نوح أنّه عندما يتحدّث أحدهما مع الآخرين بأمرٍ دينيّ، يستحضر فوراً آياتٍ
من القرآن الكريم لتأكيد كلامه؛ ما يجعل الناس تطمئن وتصدّق بشكل أسرع وتقتنع
بكلامه.
4- حافظ القرآن قدوة لغيره
أما عن الأخوات الحافظات للقرآن الكريم كاملاً، فتقول الحاجة مريم الحاصلة على
ماجستير في العلوم الاجتماعيّة وفي علوم القرآن، إنّها بدأت الحفظ من عمر 37 سنة،
وأتمّته في خمس سنوات، حيث كانت تحفظ بمقدار ثلاث صفحات أسبوعيّاً، وتضيف: "إنّ
الحافظات للقرآن الكريم قد تميّزن بين أترابهنّ، وصرن قدوةً في المجتمع، سواء
لأطفالهنّ أو حتّى لزميلاتهنّ؛ لأن الناس يرون حافظ القرآن يعيش هذا النور فيثقون
به؛ لذلك أحاول بشكل عمليّ أن أشجّع دائماً أبنائي على حفظ القرآن الكريم وقراءته".
5- حفظه يعزّز معرفة المسائل الدينية
تذكر السيدة هبة (28 عاماً)، الحاصلة على ماجستير في الأدب الإنكليزيّ وعلوم
القرآن، أنّها بدأت الحفظ من عمر 17 سنة، وأتمّته في خمس سنوات، وكانت تحفظ بحدود
الصفحة يوميّاً. أمّا عن أثر حفظ القرآن في حياتها، فقد تفوقت في دراستها في فترة
الحفظ، وهي ترى ذلك من بركة القرآن، فمن يسعى لحفظ كتاب الله، لا شك في أنّ الله
سيساعده في أمور حياته ويوفقه. كما تعتبر أنّ القرآن الكريم يشكّل درع حماية لحافظه
في معرفة المسائل الدينيّة والشرعيّة.
6- نصائح من وحي التجربة
لا توجد سنٌّ محددة لتكون مانعاً لرحلة الحافظ مع القرآن الكريم، بحسب الحاجة وفيقة
إبراهيم (47 عاماً)، المجازة في العلوم السياسيّة، والحاصلة على ماجستير في علوم
القرآن الكريم، التي لم تبدأ باكراً رحلتها مع الحفظ، وقد استغرقت ستّ سنوات
تقريباً. كانت تركّز على الحفظ بعد صلاة الصبح؛ نظراً إلى صفاء الذهن والهدوء في
هذه الساعات، كما تنصح دائماً بتحديد نظام للحفظ بالوقت والمقدار، وبتَكرار ما يتمّ
حفظه، كي لا يُنسى.
* الحوزة العلمية: باب لحفظ القرآن الكريم
تلعب الحوزة العلميّة كذلك دوراً مهمّاً في حفظ القرآن، "فالحوزة تُنظّم للطالبة
حفظ خمسة أجزاء على الأقلّ، وتقيم مسابقات قرآنيّة داخل الحوزة، وحلقات أسبوعيّة
لحفظ القرآن، مع اعتماد مدرسات متخصّصات في تحفيظ القرآن الكريم، وتجويده وتفسيره".
هذا ما أفادتنا به الحاجة مريم بهجة، مسؤولة دار القرآن والحديث في جامعة المصطفى
صلى الله عليه وآله وسلم، فرع حوزة السيّدة الزهراء عليها السلام. أمّا عن أثر
القرآن الكريم، فتخبرنا الحاجّة مريم: "إنّ الحافظات تظهر عليهنّ سمات الذكاء
والتفوُّق في دراستهنّ، وهذا من فضل الله عليهنّ ببركة حفظ القرآن الكريم". وعن
مشاركة الحافظات في تعميم الحفظ والتشجيع عليه، تذكر الحاجّة: "أنّ طالبات الحوزة
يشاركن في مسابقة السيّد عبّاس الموسويّ للحفظ، ويحرزن نتائج جيّدة. كما باتت
حافظات القرآن كاملاً في الحوزة يقمن بتدريب طالبات أخريات على الحفظ".
* جمعيّة القرآن الكريم
"الهدف كان تعزيز العلاقة مع القرآن الكريم، والارتقاء بحامليه حفظاً وفهماً
وتدبُّراً". هكذا بادرنا المدير التعليميّ المركزيّ في الجمعيّة، الأستاذ عادل خليل
معلناً هدف وجود جمعيّة القرآن الكريم التي تأسّست عام 1987م. وأضاف: "كان التأسيس
المركزيّ في بيروت، ثمّ في البقاع وصور والنبطية، إلى أن أصبح للجمعيّة 20 فرعاً
داخل لبنان".
وفي ما يتعلّق بأوّل تجربة فعليّة لتحفيظ القرآن كاملاً في لبنان، فيذكر الأستاذ
خليل: "إنّ الجمعيّة بدأت مشروعها في العام 2004م، حيث انتسب 720 طالباً، تتراوح
أعمارهم بين 12 و25 سنة. وفي عام 2009م خرّجت الجمعيّة 100 حافظ للقرآن الكريم
برعاية الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله). وفي سبيل
نشر الاهتمام بالقرآن الكريم: "أعدّت الجمعيّة مدرّسين للقرآن الكريم، يعلِّمون
القرآن في المدارس". أمّا عن نشاطاتها، فيضيف الأستاذ خليل: "تقيم الجمعيّة كلّ سنة
في أشهر الصيف دورات لحفظ القرآن الكريم، وتجري كلّ ثلاثة أشهر امتحاناً فصليّاً
للمشتركين جميعاً. كما إنّها ومنذ 20 عاماً تجري مسابقة سنويّة مركزية لحفظة القرآن
الكريم. ومنذ العام 2010م، تقيم الجمعيّة بالتعاون مع التعبئة التربويّة في حزب
الله، مسابقة السيّد عبّاس الموسويّ لحفظ القرآن الكريم للطلاب الجامعيّين".
* التعبئة التربويّة في خدمة القرآن الكريم
للحديث أكثر عن مسابقة السيّد عبّاس الموسويّ، كان لنا لقاء مع المسؤول الثقافيّ
للتعبئة التربويّة في بيروت، الشيخ حبيب قصير، الذي أخبرنا أنّ المسابقة تجري
برعاية الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)، وتتضمّن
ثلاثة محاور: الحفظ، التلاوة، وتفسير القرآن الكريم. ويضيف: "تُخصص جوائز مالية
للفائزين، بحسب كل محور ومرحلة، مضافاً إلى درع المسابقة تقدمة التعبئة التربوية،
ومصحف ممهور بتوقيع سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، وشهادة مشاركة من
جمعيّة القرآن الكريم. ويشارك في التصفيات النهائية من 150 إلى 160 مشتركاً".
والجدير ذكره هنا، أنّ حفظة القرآن الكريم يشاركون في مسابقات عالميّة تُجرى في
إيران والعراق، ويحرزون نتائج مهمّة وبارزة.
فيا أيّها القارئ العزيز، لا تستصعب حفظ القرآن الكريم، فمسيرة حفظ القرآن تبدأ
بسورة؛ فلا تستهِن بأمر الحفظ، وثابر على قراءة كتاب الله، وفَهم معانيه وحفظه، ولا
سيّما في أشهر النور.
ونختم بما قاله السيد القائد عليّ الخامنئيّ دام ظله: "أحبُّ أنْ أقدِّم كلَّ ما
أملك، وآخذ حفظ القرآن بدلاً منه".
1- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج2، ص100.