"قليلٌ من القراءة، وكثيرٌ من التفكير". كانت إحدى
الكلمات الشهيرة للشهيد السيّد محمد باقر الصدر قدس سره، عندما سُئل عن كيفيّة
مراكمة معرفة صحيحة. ورغم سعة اطّلاعه التي تكاد تقارب "الموسوعيّة"، عبّر عنها
بــ"القليل" نسبةً إلى دور "التفكير". في بداية هذا الملّف المخصّص لـ "خير جليس"،
وفي غاية تفوق الأُنس به وتمرير الوقت، نسأل: لِمَ علينا أن نقرأ؟ وكيف يتمّ بناء
الوعي من خلال الكتاب؟! وأيّ الكتب والقراءات هي الفعّالة والهادفة؟ هذه الأسئلة
وغيرها طرحناها في حوار مع النائب السيد د. حسن فضل الله، ليتحدّث لقرّاء المجلة عن
دور الكتاب في بناء جيل مُمانع ومقاوم. وأخيراً، لنعرف هل كثير التفكير يعتمد على
قليل القراءة؟
* بدايةً، لماذا لا يزال الكتاب هو المادّة المعرفيّة
الأساسيّة، رغم التطوّر الهائل على المستوى التقنيّ؟
الكتاب بما هو مضمون معرفيّ، يعني المادّة التي يحويها بين دفّتيه، وليس الشكل؛
لذلك مَن يسعى إلى المعرفة العلميّة المعمّقة يلجأ إلى الكتاب. وبمقارنة مع الكتاب
الإلكترونيّ على الإنترنت، نجده مماثلاً للكتاب الورقيّ؛ لأنّ الإنتاج الأساس على
مستوى المعرفة يبقى للكتاب الورقيّ، فيكون الإلكتروني نسخة عنه وليس هناك تأليف
إلكترونيّ أصيل. فالمادّة الموجودة على وسائل الإعلام الإلكترونيّة، أو على وسائل
التواصل الاجتماعيّ، هي مادّة قصيرة غير معمّقة، وغير خاضعة للتدقيق العلميّ
غالباً، بينما الكتاب يكون خاضعاً لمجموعة من المعايير العلميّة، والتحليل العميق.
* "لا وقت لديّ للقراءة"، هي المشكلة الأساس. لو أردنا
علاج هذه المشكلة بمطالعة موجّهة، أيّ الكتب تنصحون الشباب بقراءتها؟
ربّما لأنّ النفس البشريّة ميّالة إلى القصص وإلى الروايات، يبحث القارئ عن شيء
يسدّ نَهمه للمعرفة ويجذبه أيضاً؛ لذلك نحن نحتاج إلى تنويع الإصدارات والموضوعات
والأسلوب. لو أخذنا مثلاً التحدّيات التي يواجهها الجيل الحاليّ: التحدّيات
الثقافيّة، والأخلاقيّة، والسلوكيّة أو على مستوى قدرته على المعرفة، فهذه
الموضوعات يصعب أن يلجأ فيها هذا الجيل إلى أمّهات الكتب؛ لذلك لا بدّ من أن نُحدّد
أوّلاً: كيف نقدّم له الرواية الهادفة بالمعنى الحديث؟ كيف نقدّم له القِيَم
القرآنيّة؟ إذا أردنا أن نحدّثه عن الإيمان، كيف نقدّم له هذا الإيمان؟ هل نقدّمه
بالطريقة التقليديّة؟ نحن نحتاج إلى معالجة هذه الموضوعات بطريقة تحافظ على
الأصالة، لكن بأسلوب جديد.
وفي الأسلوب؛ لا يمكن دائماً أن نقدّم المؤلّفات الزجريّة –لا تفعل كذا ولا تعمل
كذا- فأسلوب القصة أو الرواية يُقدّم تلك المعالجات أفضل من الطرق المباشرة في
الوعظ غالباً، كما في قصّة الإمامين الحسنين عليهما السلام كيف علّما شيخاً كبيراً الوضوء، أو
قصّة الإمام الحسن عليه السلام مع ذلك الشاميّ الذي جاء ليشتمه. هذا سلوك أخلاقي
راقٍ.
لذلك، أنصح بالبحث عن هذا الأسلوب في الكتابة، وأيضاً الحجم له دور، واسم المؤلف
الخبير والواعي له دور في تشجيع الشباب على المطالعة.
* في خصوص نوعيّة الكتاب، كيف يستطيع القارئ أن يُميّز
بين كتاب يفيده، وبين كتاب يروَّج له بـ"الأكثر مبيعاً" مثلاً؟
توجد كتب مختلفة للمطالعة. وفي الحقيقة هذا الموضوع مرتبط بعدّة أمور، فعلى القارئ
أن يختار:
أولاً: الكتاب الذي يُناسب مستواه الفكريّ والثقافيّ؛ إذ ليس من الممكن
لشخصٍ مبتدئً في القضايا الفلسفيّة والعقائديّة وما شابه، أن يذهب إلى أمّهات الكتب
الأساسيّة، بل عليه أن يتدرّج تماماً كالتدرّج المدرسيّ والجامعيّ.
ثانياً: الكتاب الذي يلبّي حاجته إلى المعرفة. مثلاً؛ المعرفة الدينية التي
تشكّل فرضاً معرفيّاً وحاجة حياتيّة أيضاً. والتاريخ أمر مهمّ وأساس لمعرفة التجارب
السابقة.
ثالثاً: ما يلبّي الهواية والميل الثقافيّ، بحسب طبيعة القارئ واتّجاهاته
واهتماماته. فهناك من جيل الشباب مَن يذهب أكثر في اتّجاه العلوم التقنيّة، يفتّش
عن المعلومة السريعة، بينما نلاحظ أنّ المفكّرين المثقّفين الأدباء أو السياسيّين،
يتّجهون باتجاهات مختلفة.
رابعاً: كتاب يناسب خصائص الجيل. قد يكون أمامنا جيل أخذته التقنيّات أكثر
ممّا أخذته المعرفة والثقافة العامّة؛ لذلك نرى أنّ كثيراً من الطلّاب الجامعيّين
الآن لا يمتلكون المعرفة، ولا الحافز للقراءة، ولا الصبر للتعمّق وللتزوّد بالمعارف
العامّة وبالثقافة العامّة. خصوصاً أنّه انتشرت اليوم لغة (الواتس أب)، أو العربيّة
المفكّكة، حيث بات بعض الطلاب الجامعيّين لا يحسن صياغة جملة أو فكرة صحيحة بنصٍّ
عميق.
وأخيراً، لا بدّ من إدخال الكتاب والمطالعة في نمط حياتنا؛ لأنّ المطالعة لا
تزوّدنا فقط بِالمعرفة المحدّدة، إنّما تصقل الشخصيّة على مستوى الفهم والوعي.
* كيف كانت علاقة بدايات جيل المقاومة بالكتاب؟ وما هي
الكتب الأكثر تأثيراً عليه، أو أثّرت في حياتكم مثلاً؟
كانت البيئة الأساسيّة، في تلك الفترة، هي البيئة الدينيّة، فكان الاتّجاه الأغلب
هو في تَكَوُّن الوعي، وقبل سنّ الشباب كان الأبرز بين الكتب الدينيّة لشخصيّتين
مركزيّتين في عالمنا المعاصر؛ كتب الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، وكتب
الشهيد مطهّري قدس سره، ولاحقاً كتاب "فلسفتنا" للشهيد الصدر. أتحدّث عن مرحلة
التحدّيات في الثمانينيّات، وبعض هذه الكتب كان على مستوى عالٍ ويحتاج إلى شرح،
فكان هناك من يهتمّ بشرح هذه المؤلّفات للشباب، من خلال منتديات ثقافيّة ناشطة.
وكانت طريقة التشجيع على المطالعة مختلفة في تلك المرحلة، فكنّا، نحن الشباب نقرأ
الصحف، كذلك كانت دار "التوحيد" في إيران تلبّي طلبات الشباب، وكذلك كان لمكتبة
"اتّحاد الطلبة المسلمين" في منطقة الغبيريّ، دور في تعزيز المطالعة، فالبيئة تؤثّر
جدّاً.
* ماذا عن كتب تكوين الوعي السياسيّ؟
لاحقاً أصبحنا نتّجه إلى المجال السياسيّ ومطالعة المذكّرات السياسيّة. فكلّ مرحلة
لها طبيعتها، مثلاً عندما انتصرت الثورة الإسلاميّة، طالعنا كلّ ما له علاقة
بالإمام الخمينيّ قدس سره وإيران، أيضاً في القضية الفلسطينيّة لأنّها كانت القضيّة
الحيّة والمستمرّة، كُنا نقرأ ما بين السياسة والتاريخ. أذكر أنّ بعض الكتب التي
كنا نحتفظ بها في منازلنا هي تلك التي تغلّفها أوراق الصحف لكي نحافظ على أغلفتها
من التلف.
أودّ أن أشير إلى أنّ التأثير الأساس هو للتربية في البيت، مثلاً، فوالدي رحمه
الله، وكان شاعراً وأديباً ولديه مكتبة عامرة بأصناف المؤلّفات، كان يقرأ لنا من
كتب السيرة والشعر، ويحفّزنا على المطالعة.
* بالحديث عن الكتابات التي أثّرت في الجيل السابق في
البدايات، أين مجلّة "بقيّة الله" منها؟
مجلة "بقيّة الله" مرتبطة بالمرحلة التي نشأتْ فيها، وهي من المجلات التي كنا
نتلقّاها بشكل دوريّ، إلى اليوم. أنا من الأشخاص الذين يقرأون المجلّة، ليس
بالضرورة بتمامها، لكن تحتوي بعض الموضوعات الجاذبة، خاصّة المعلومات السريعة،
كالواحة الأدبيّة، القصص القصيرة، أو نصوص العلماء المنتقاة، كلمات الإمام الخميني
قدس سره والقائد دام ظله، قصص الشهداء... إلخ. وأنا من المشجعين على قراءة المجلة؛
لأنّها من المجّلات التي تقدّم شيئاً مفيداً للقارئ بحسب التقييم العامّ، تعطيه
وجبة سريعة، قد لا يكون المطلوب منها أن تقدّم العمق الفكريّ والثقافيّ والعقائديّ؛
لأنّ طبيعة المجلّة تختلف عن الكتاب، فهي واحة متنوّعة مختصرة. والمطلوب من المجلّة
أن تجدّد نفسها دائماً لتواكب الإعلام المعاصر، خاصّة أنّها موجودة أيضاً على
الإنترنت، ويستطيع أيّ متصفّح أن يصل إليها.
* ما هي آلية المطالعة التي ترسّخ مضمون كتبٍ بمستوى كتب
الشهيد الصدر قدس سره لدى الشباب؟
قد تكون حلقات النقاش من العوامل المساعدة والجاذبة للقراءة، وقد تتحوّل إلى سهرة
شبابيّة، وهو ما كان يحصل سابقاً. وهناك مجموعة من الخطوات الأخرى، منها:
أولاً: ليس بالضرورة عندما نمسك كتاباً أن نقرأه من الغلاف إلى الغلاف، بل
يتّجه كلّ شخص تُجاه الموضوعات التي تهمّه.
ثانياً: التمرّس والمراكمة؛ بمعنى اتّخاذ قرار بتخصيص نصف ساعة للقراءة
يوميّاً، حتّى تتحوّل إلى عادة، مثلاً في الباص وفي الطائرة وفي السيارة.
ثالثاً: النقاش؛ يشكّل النقاش حافزاً ودافعاً إلى الاطّلاع على قضايا لم تكن
لتخطر على بالنا لولا تداولها.
رابعاً: قراءة النصّ بعمق أكثر، قد أحتاج أحياناً إلى أن أقرأ الصفحة أو
الفكرة مرّة ومرّتين.
خامساً: البحث؛ بوجود التقنيات الحديثة يمكن أن أبحث عن تفسيرات لكلمة أو
لجملة، تعزّز اطّلاعي وفهمي أيضاً.
* ماذا لو مات الورق، أين ستصبح علاقتنا بالكتاب
والمعرفة؟
اليوم، بات الكثير من الكتب العالميّة متوفراً، وبات نيله سهلاً عبر الإنترنت. هذا
الأمر سهّل المطالعة والبحث أيضاً. لا أتكلّم عن تجربة لم أقم بها، فالكثير من
المصادر الكبرى والمجلدات لم أقم بشرائها من المكتبة. مضافاً إلى أنّ وسائل البحث
الآن صارت أسرع، وباتت التقنيّات تساعدنا أكثر، ومن المفترض أن لا تلغي الكتاب، بل
تعزّزه وتوصله، كي أحصل عليه بيسر وسهولة.
* كيف يساعد الكتاب على تكوين الحسّ النقديّ لما نقرأ؟
إنّ الوصول إلى مرحلة القارئ الناقد يحتاج إلى جهد وإلى معرفة واسعة وإلى قدرات
علميّة معينة. فالحسّ النقدي لا يأتي معنا بالفطرة غالباً، بل مع تطوّر معرفة
الإنسان وتمييزه المتناقضات. عمليّاً، يُفترض أن نُخضع ما نقرأ لمجموعة من الأسئلة
مثلاً: إلى ماذا يستند هذا النصّ؟ ما هي المصادر؟ ما هي الأدلّة؟ هل ناقش أيّ رأي
آخر؟ هل مارس حيلة للإقناع أو اجتزأ حقيقةً؟
* تبرز اليوم مجموعة من الإنتاجات الشبابيّة، في معرض
الكتاب مثلاً، كيف تفسّرون هذه الصحوة؟
إقبال الشباب على التأليف ظاهرة إيجابية، ولا بدّ من تشجيعها والعمل على تنميتها.
والأسباب قد تكون متعدّدة، منها: الحوافز الشخصيّة التي تدلّ على ثقة الشباب
بأنفسهم، لجهة استعدادهم لتقديم نموذج كتابيّ إلى القارئ. الأمر الآخر، الأحداث
التي تحيط بنا، وتوجد تحوّلات كبرى تجري من حولنا في هذا الزمن، نتيجة المناخ
التعبويّ: الشهداء، المواجهات، التضحيات، الإنجازات.
* كلمة أخيرة للشباب المطالعين والمثقفين.
"اغتنم شبابك قبل هرمك". الآن هذه مرحلة تكوّن الوعي وتنميته. لاحقاً لن
يكون لدى الشباب القدرة الكاملة على استيعاب المواد المعرفيّة. ولا بدّ من تعزيز
الثقافة الذاتيّة، تعزيز المعرفة في الموضوعات الدينيّة، التاريخيّة، السياسيّة،
خاصّة في هذه المرحلة، أن لا نعادي كتاباً لم يتوافق مع آرائنا وأفكارنا، بل نقرأه
بعين الناقد لنعرف الآراء الأخرى.
وهناك مسؤوليّة تقع على المهتمين بالشأن الثقافيّ، والشأن المعرفيّ المكتبات العامة
لها دور، وحلقات النقاش لها دور، حتّى الرحلات الترفيهيّة، في كل مجال من المجالات
نستطيع أن نعزّز المطالعة.