مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

التنشئة الاجتماعيّة والالتزام الديني


حوراء أسعد حمدان


يتجاذب الإنسان في وجوده، العامّ والخاصّ، إقبال وإدبار. وهو في داخليّته، بين هذا وذاك، في جدل مستمرّ بين جنود العقل وجنود الجهل. لذلك ورد عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قوله: "اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا"(1). ولم يُترك الإنسان وحده في صراعه الباطنيّ بين جنود الرحمان وجنود الشيطان، بل إن كلّ ما يحيط به يؤثّر في إضفاء وزن إضافيّ على هذا التجاذب(2). وعليه، قال الله في محكم كتابه: ﴿قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم: 6).

•أبرز مؤثّرات التنشئة الاجتماعية
يمكن اعتبار مؤسّسات التنشئة الاجتماعية من أبرز تلك المؤثّرات التي قد تغذّي تديّن الإنسان بين السلب والإيجاب. فما هو مدى هذا التأثير على موضوع الالتزام الفرديّ؟ وهل تضطلع الأسرة وحدها بمسؤوليّات التنشئة وتؤثّر أكثر من غيرها على مستويات التديّن والالتزام والتعصّب لأفرادها أو تتنازع مع مؤسسات أخرى؟ هذان السؤالان وغيرهما يطرحها كتاب "التنشئة الاجتماعيّة والالتزام الديني"، الذي حاول مؤلّفه صادق عباس الموسوي الإجابة النظريّة والتجريبيّة عنها. صدر هذا الكتاب عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ضمن سلسلة الدراسات الحضاريّة.

•دائرة البحث
هذه الدراسة هي جزءٌ من أطروحة الدكتوراه في علم الاجتماع(3)، وتتضمّن بابين رئيسَيْن؛ ويدور رحى البحث فيها حول موضوع تأثير التنشئة الاجتماعيّة بمؤسّساتها المختلفة على الالتزام الدينيّ للأفراد.

يشمل الباب الأول ثلاثة فصول ومجموعة أجزاء، فيما ضمّ الباب الثاني مختصراً للبحث الميدانيّ الذي قام به الكاتب. تتحدّد دائرة البحث الخاصة "فيه اجتماعيّاً ودينيّاً ضمن المجتمع اللبناني وداخل الدين الإسلامي لتنطبق على الشيعة الإمامية في الجمهوريّة اللبنانيّة"(4).

•التنشئة الاجتماعيّة: المفهوم والاتّجاهات
التنشئة الاجتماعيّة هي عملية أَنْسَنة الفرد من خلال دمجه عن طريق مقصود أو غير مقصود بالمجتمع. وهي إلى ذلك علاقة تفاعليّة تتبلور خلالها شخصيّة المُنْشأ(5). تقوم بعمليّة الأنسنة هذه مؤسسات عدّة: الأسرة، المؤسسات التعليميّة، المؤسسات السياسيّة والإعلام... إلخ، حيث تتكشّف أبعاد الشخصيّة الإنسانيّة بفعل التراكم الحاصل من تأثير هذه المؤسسات. من هذه الأبعاد موضوع الالتزام الدينيّ الذي يُعد من أبرز الشواخص الاجتماعيّة التي تستهدفها التنشئة.

اختلفت الاتّجاهات الاجتماعيّة التقليديّة والمعاصرة في بلورة هذا المفهوم بحسب رؤيتها الخاصة، وخلفيّاتها العلميّة. فيما اعتبر الإسلام أنّ النزعة الاجتماعيّة هي حالة فطريّة، واعتقد بأصالة المجتمع والفرد معاً وعدم قهريّة التنشئة الاجتماعيّة.

•الدين والالتزام الدينيّ
إنّ الدين كظاهرة اجتماعيّة هو "الالتزام بعقيدة دينيّة وأداء فرائضها وشعائرها.. نحو المعبود المعترف به في هذا الدين"(6). وهو إلى ذلك يُنظر إليه ضمن مقاربات مختلفة. قدّم الكاتب الرؤية الإسلاميّة لنشأة الدين، فاعتبر الشيخ مرتضى مطهري قدس سره أنّ اختصاص الإنسان بفطرة متأصّلة تجعله ينزع باتجاه القوّة المتعالية مهما اختلف في تسميتها(7). وقد خلص الكاتب في نهاية هذا الجزء إلى أنّ الظاهرة الدينيّة تحمل كوامن بقائها بسبب نزعة الدين الفطريّة المتأصّلة في الإنسان وتلبيته لحاجات الناس ورغباتهم.

•التديّن في مجتمع متعدّد الطوائف
ذكّر الكاتب بدايةً بمدار بحثه الأصليّ والذي يستهدف دراسة حالة التديّن في الساحة الجامعيّة على الأراضي اللبنانية. فالمجتمع اللبناني ذو بيئة طائفيّة، لذلك وجب عليه دراسة معالم السلوك الطائفيّ والدينيّ وتشابُكِهما وتوضيح هذه السمة البارزة في لبنان والتي تبدو آثارها جليّة عند كل أزمة. وبيّن الكاتب الاختلاف بين الالتزام الدينيّ والطائفيّ، واعتبر أنّ التشدّد الدينيّ قد يتكيّف مع التعصّب الطائفيّ في حال كانت البيئة الثقافيّة بيئة اختزالية تحتكر المعرفة والحقيقة.

•الالتزام الدينيّ عند الشيعة
تعمّق الكاتب في موضوع الالتزام الدينيّ من خلال التعرّض للمصاديق العمليّة في خصوصيتها اللبنانيّة الشيعيّة. فحاول استكناه طبيعة الالتزام الدينيّ لدى الشيعة، مؤكّداً في سياق ذلك على مساحة الاشتراك الواسعة التي يتّفق بها الشيعة مع باقي المذاهب. وتُعدّ مسألة التعيين النصيّ الإلهي للخليفة بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من أهمّ الخصوصيّات الشيعيّة ببُعدَيها الفكريّ والسياسيّ.

يقوم الالتزام الدينيّ عند الشيعة على دعامتَي الأصول والفروع. وقد فصّل الكاتب المفاهيم الأساسيّة المختصّة بأصول وفروع الدين والتي هي في جوهرها تخليص الإنسان من العبوديّة لغير الله(8).

كما شرح الكاتب كيف تتكاتف مؤسسات التنشئة المختلفة في بلورة الالتزام الديني عند الشيعة، وتتفاوت فعاليّة التنشئة الدينية بحسب طبيعة هذه المؤسسات ومدى تديّنها.

•خلاصات الواقع الميدانيّ
عرض الكاتب في بداية الباب الثاني عناصر العمل الميداني كمجتمع الدراسة (مدينة بيروت)، وحدة المعاينة (سنوات الإجازة والدراسات العليا)، اختيار العيّنة (طلاب ذوو خلفيّات مختلفة)، أدوات البحث وتجريبها (استمارات واستبيانات)، والمتغيّرات (الأسرة، المدرسة والحزب).
بعد عرض نتائج المـتغـيّرات على الالـتزام الدينيّ(9) قـــام الــباحـث بعمليـة ضبـط للمتغيرات، تمهيداً لبلورة المتغير الأكثر تأثيراً، ثم عرض نتائج الإحصاءات حول تأثير كل مؤسسة على حدة؛ نقصد بذلك: الأسرة، المدرسة، الأحزاب.

في ختام الدراسة، اعتبر الكاتب أنّ مستويات التعصّب الدينيّ مقلقة على الساحة الجامعيّة رغم أنّ معدّلاتها دون المتوسّطة. وقد حَسمت الدراسة على هذا المستوى، عدم وجود تأثير للأسر على التعصّب، بينما ارتفعت النسب في المؤسّسات الأخرى.

•دراسة مهمة
تظهر أهميّة الكتاب وجدّية موضوعه من صفحاته الأولى، حيث يُلاحظ من البداية محاولة الكاتب الربط الدائم بين المعطيات النظريّة التي يقدّمها والإطار الخاصّ لبحثه. فيبدو الكتاب كحَبْكة واحدة يأخذ كلّ جزء فيه دوراً معيّناً في بيان فرضيّاته.

يستوفي البحث النظريّ حقّه، حيث يُلاحظ اهتمام الكاتب ببيان التعريفات المختلفة لكلّ المواضيع المطروحة وإبرازه الدائم لمختلف الاتجاهات النظريّة القديمة والمعاصرة. كما يُعطي أهمية لإظهار الظروف التاريخية المحيطة بموضوع بحثه، لا سيّما ما يخصّ الواقع اللبناني بطبيعة نظامه وأحزابه السياسيّة ذات البعد الدينيّ. أما ما يلفت الانتباه من الناحية المنهجيّة فهو مراعاة الكاتب الأسس المنهجيّة من حيث ذكره للمصادر والمراجع واتّسام بحثه بالوضوح والغنى المعرفي في قسميه النظري والميدانيّ.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع