مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مقابلة: لماذا لم يستطع اليهود اقتلاع قضية القدس من الوجدان؟



حاول اليهود على مدى عقود من الزمن بدأبٍ مستعملين مختلف الأساليب أن يتلاعبوا بقضية القدس لما يخدم مصالحهم، وأعدّوا العدّة لحرب على الوجدان الحي وعلى كل من لديه أدنى اعتراف بعدم مشروعية ما يخططون لأجله، فعمدوا إلى شن حروبٍ نفسية وسياسية وفكرية وعسكرية وعلى كل المحاور لاقتلاع قضية القدس من وجدان المسيحيين والمسلمين. لأنه بمجرد أن تُمحى قضية القدس من الوجدان، تُصبح الأبواب مُشرّعة لتحقيق أهدافهم التي يسعون للوصول إليها. توجّهت به مجلة بقية الله إلى كلّ‏ من الحاج حسن حدرج عضو المجلس السياسي في حزب الله والدكتور أنطوان سيف.

الحاج حسن حدرج أجاب على السؤال المطروح بما يلي:

عندما فشلت مفاوضات التسوية على المسار الإسرائيلي الفلسطيني في كامب ديفيد في العام 2000م، بين وفد السلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات والوفد الإسرائيلي برئاسة ايهود باراك برعاية مباشرة من الرئيس الأميركي بيل كلينتون، قيل حينها أن سبب انهيار المفاوضات وعدم التوصل إلى اتفاق على الوضع النهائي الذي يفترض أن يلي المرحلة الانتقالية المتمثلة بالحكم الإداري الذاتي المحدود، هو الخلاف على مصير القدس، حيث لم يستطع باراك أن يقدم تنازلات بإمكان عرفات تسويقها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، كما لم يستطع عرفات أن يوافق على الصيغة المطروحة لتقاسم إدارة الأحياء والأماكن المقدسة ونقل عنه قوله "المسلمون سيشنقونني على أسوار القدس أن وافقت على التفريط بحقوقهم فيها". وبعد شهر فقط قرر آرييل شارون أن يقوم بجولة في باحة المسجد الأقصى، في خطوة تصعيدية تجاه باراك، واستفزازية تجاه الفلسطينيين ليؤكد على رفض التفاوض حول مصير القدس، وكانت جولته تلك الشرارة التي فجرت الغضب الفلسطيني والإسلامي في 28 أيلول عام 2000 دفاعاً عن المسجد الأقصى، فاشتعلت انتفاضة الأقصى التي لا تزال متواصلة حتى يومنا هذا في مواجهات دموية يومية يخوضها الشعب الفلسطيني عبر انتفاضته المتجددة ومقاومته المتصاعدة ضد العدوان والإرهاب والمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنون الغزاة الصهاينة.

من هذا المدخل نلج إلى التساؤل: لماذا يحتدم الصراع حول القدس؟ وما هي موقعيتها في وعي المسلم ووجدانه؟ ولماذا تحظى بكل هذه المكانة في الحضارة الإسلامية على مر العصور؟
إن علاقة المسلمين بالقدس منذ العصر الأول للإسلام هي علاقة قداسة لا يرقى إليها شك أو خلاف، وهي محل إجماع أكدته النصوص القطعية الثبوت والقطعية الدلالة في القران والسنة. لذلك كان الارتباط بينها وبين مكة المكرمة والمدينة المنورة ارتباط قداسة إرادته المشيئة الإلهية تعبيراً عن تكامل الأبعاد الدينية للمسيرة الإنسانية في الارتقاء إلى الله سبحانه وتعالى، لتكون رسالة الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله خاتمة الرسالات والنبوات، ذلك لأن كل الأنبياء عليهم السلام الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى قبل بعثة خاتم الأنبياء كانت القدس محور حركتهم ورسالاتهم، ومصداق ذلك قول الرسول‏ صلى الله عليه وآبه في الحديث المروي عن ابن عباس "بيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه من موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي أو قام فيه ملك".

ومن هنا تتبين أهمية الرموز والدلالات التي تضمنتها رحلة الإسراء والمعراج لرسول الله‏ صلى الله عليه وآله من المسجد الحرام مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى القدس الشريف لتؤكد أيضاً الارتباط المقدس بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى. وليس الارتباط المقدس ارتباطاً مكانياً فقط إنما هو ارتباط زماني أيضاً لتتكامل القداسة المكانية بالقداسة الزمانية فيما يتعلق بمبدأ عبادة اللّه سبحانه وتعالى في الأرض، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "قلت لرسول الله‏ صلى الله عليه وآله أي مسجد وضع على وجه الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: بيت المقدس... الخ". كما أن قضية قبلة المسلمين في الصلاة التي شهدت تحولاً من القدس إلى مكة بعد استقرار رسول الله‏ صلى الله عليه وآله في المدينة المنورة لم تكن إلا تعبيراً عن ارتباط ثلاثي الأبعاد بين المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى في وحدة القداسة المكانية وتكامل الرموز العبادية لله رب العالمين.

وليست مسألة الارتباط المقدس للحجر الأسود في الكعبة المشرفة كحجر من حجارة الجنة، والصخرة المشرفة في المسجد الأقصى التي بدأ عروج رسول الله‏ صلى الله عليه وآله إلى السماء من فوقها والتي شرفها الله بأنه ما من نبي أو رسول إلا وقد صلى فوقها والتي هي قطعة من الجنة كما ورد في الحديث، ليست مسألة الارتباط بين الحجر الأسود والصخرة المشرفة إلا دليلاً آخر يضاف إلى مجموع الأدلة على المكانة التي تحظى بها القدس في الوجدان الإسلامي ما يؤكد وجود قاعدة كبيرة من الوقائع والرموز والشواهد والآيات والأحاديث التي تربط القدس بأعماق الذات الإسلامية. ما ذكرناه هو بعض الشواهد وليس كلها، لعدم اتساع المقام، ما يجعل قضية القدس بالنسبة للمسلمين قضية ذات أبعاد متصلة بصلب العقيدة الإسلامية، من المستحيل أن تنفصل عن الانتماء الإسلامي الحضاري بالنسبة لأي مسلم على وجه الأرض، وهذا ما يجعل علاقة المسلمين بالقدس علاقة دينية، ثقافية، تاريخية، سياسية، اجتماعية ومصيرية، وهذا ما يؤكد على ان الصراع في القدس وعليها وحولها هو صراع حضاري بالنسبة للمسلمين لا يمكن أن يخضع للمساومة أو التفريط بأي حال من الأحوال. أن كون القدس اليوم فريسة الاحتلال الصهيوني مع ما يرافق ذلك من إجراءات سياسية وقانونية واستيطانية لتهويدها، يجعل القلق على مصيرها قلقاً مشروعاً في ظل الضعف والعجز اللذين يسيطران على العالم العربي والإسلامي في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب.

إن القدس مدينة الأنبياء من إبراهيم‏ عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وآله مروراً بعيسى‏ عليه السلام وكل أنبياء ورسل الله يدنسها اليوم قتلة الأنبياء ويعيثون فيها فساداً وظلماً وإرهاباً وانتهاكاً للمقدسات الإسلامية والمسيحية على السواء، في ظل مشروع صهيوني يستهدف إلغاء الآخر في القدس سواء كان إسلامياً أو مسيحياً وهذا ما يجعل الخطر عليها كبيراً. ومن هنا ومن موقع الإيمان المطلق بقداسة القدس واعتبارها مرتكز صراع الأمة مع الكيان الصهيوني الغاصب وفي تأكيد إضافي معاصر للرموز والدلالات الإسلامية المتعلقة بالقدس كان اختيار الإمام الخميني رحمهم الله ليوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك في كل عام يوماً عالمياً للقدس بهدف إحياء وتأكيد وتعزيز ارتباط المسلمين بالقدس واستنهاض روح المقاومة والمواجهة والاستعداد للتضحية في سبيل تحريرها واستنقاذها من أيدي الصهاينة الغاصبين، وفي هذا استحضار للوعد الإلهي القرآني الغيبي المؤكد "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما عَلَوا تتبيراً".

الدكتور أنطوان سيف تحدث حول الموضوع من وجهة نظره قائلاً:
تستأثر بالقدس راهناً رؤيتان هما على طرفَي نقيض الاستئثار والشركة. الاستئثار القاهر والشركة السلاميَّة. إنها المدينة الأكثر سكونيةً، نُذرت "مدينة سلام" أبديةً، المكان الأكثر أماناً في العالم إذ بنت أمنَها وبردَها وسلامَها في صدور المؤمنين بها، وهم كثرةٌ عالمية، تضمُّهم ويحيطون بها، أهلُها وجيرانها الأقربون. القدس أكبر من جغرافيَّتها تعاني أكثر ما تعاني من جهل قدسيَّتها، أو تزوير قدسيَّتها ودلالتها الدينيَّة الكبرى. أرادوها مدينة نزاع، ومدينة منتزعة، ساحة وغى وبطش، أي قتلوا جوهرها واسمها. الاستئثار الدموي الصهيوني حوَّل القدس إلى مجرَّد جغرافية سياسية أي استباح، رمزيَّتها المشتركة. القدس أكبر من جغرافيَّتها. ويستحيل اقتلاعها من الوجدان. الفكر الاستئثاري المبني على خرافات تاريخيّة يؤجّج الأحقاد. والخوف من "عدوى" هذا الفكر الصهيوني القائم على الاحتلال بالقوة للأرض وتهجير أهلها، وقتلهم. تصغير القدس إلى استئثار أحادي هو إجرام جاهل.

فاليهوديَّة والمسيحية والإسلام، أديان التوحيد الكبرى، تؤكد توحيدها في وحدة القدس، ولا وحدة إلاّ في شراكة روحية وحياتية وإنسانية يكون السلام العادل أساسها. إن اجتياح جغرافيا وديمغرافيا القدس لن يحمي المجتاحين، إذ القدس أعظم من جغرافيَّتها. والتهجير، المسمَّى اليوم بلطافة لفظية "الترانسفير"، أي التحويل، كما يتم تحويل العملة من بلد إلى بلد آخر، كذا يعملون لتحويل الناس الفلسطينيين عموماً، والمقدسيين خصوصاً، مسلمين ومسيحيين، من القدس وفلسطين عموماً إلى بلدان أخرى!. يراهن على تغيير التاريخ الماضي، وتغيير الحاضر والمستقبل، عن طريق تغيير الجغرافيا؛ إنها حرب طويلة طويلة لا تضع أوزارها إلاَّ بهزيمة الاستئثاريين وانتصار السلاميين المقدسيِّين التوحيديين، أهل الشراكة في حماية القدس، وبناء السلام البشري على نموذجها. قد تنتصر السياسات الصغيرة التي لا ترى في القدس سوى ساحة وغى وحقد. إلاّ أن "انتصارها" لا عمر له مهما تعدَّدت السنوات. بذا يستحيل اقتلاع القدس من الوجدان.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع