الشيخ هشام شري
ورث الإمام الحسن عليه السلام تلك الفترة العصيبة التي عايشها والده أمير المؤمنين عليه السلام حيث واجه الناكثين والقاسطين والمارقين، ووصل إلى مرحلة أحسّ فيها بقلة الناصر والمعين بشكل خطير لخّصه بتلك الكلمة "لا رأي لمن لا يطاع"(1).
*خيارات المواجهة
لقد اتّضح من خلال المسار الطويل والعسير الذي ساره أمير المؤمنين عليه السلام أنّ هؤلاء القوم ليسوا جاهزين للمواجهة والتضحية، وأنّ الاعتماد عليهم في غير محلّه، وبالتالي لم يعد من الحكمة متابعة المواجهة العسكريّة، مع كون فرص نجاحها معدومة، وهذا ما أخبر عنه الإمام الحسن عليه السلام نفسه: "وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتُ مُعَاوِيَةَ لَأَخَذُوا بِعُنُقِي حَتَّى يَدْفَعُونِي إِلَيْهِ سِلْماً، فَوَاللَّهِ لَأَنْ أُسَالِمَهُ وَأَنَا عَزِيزٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَقْتُلَنِي وَأَنَا أَسِيرُهُ أَوْ يَمُنَّ عَلَيَّ فَتَكُونَ سُبَّةً عَلَى بَنِي هَاشِمٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَمُعَاوِيَةُ لَا يَزَالُ يَمُنُّ بِهَا وَعَقِبُهُ عَلَى الْحَيِّ مِنَّا وَالْمَيِّتِ"(2). لكنه رغم قراءته تلك، لم يأخذ القرار بعيداً عن أتباعه، بل ألقى عليهم الحجّة قائلاً: "أَمَا وَاللَّهِ مَا ثَنَّانَا عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ ذِلَّةٌ وَلَا قِلَّةٌ وَلَكِنْ كُنَّا نُقَاتِلُهُمْ بِالسَّلَامَةِ وَالصَّبْرِ فَشِيبَ السَّلَامَةُ بِالْعَدَاوَةِ وَالصَّبْرُ بِالْجَزَعِ وَكُنْتُمْ تَتَوَجَّهُونَ مَعَنَا وَدِينُكُمْ أَمَامَ دُنْيَاكُمْ وَقَدْ أَصْبَحْتُمُ الْآنَ وَدُنْيَاكُمْ أَمَامَ دِينِكُمْ وَكُنَّا لَكُمْ وَكُنْتُمْ لَنَا وَقَدْ صِرْتُمُ الْيَوْمَ عَلَيْنَا ثُمَّ أَصْبَحْتُمْ تَصُدُّونَ قَتِيلَيْنِ قَتِيلًا بِصِفِّينَ تَبْكُونَ عَلَيْهِمْ وَقَتِيلًا بِالنَّهْرَوَانِ تَطْلُبُونَ بِثَأْرِهِمْ فَأَمَّا الْبَاكِي فَخَاذِلٌ وَأَمَّا الطَّالِبُ فَثَائِرٌ وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ دَعَا إِلَى أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ عِزٌّ وَلَا نَصَفَةٌ فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْحَيَاةَ قَبِلْنَاهُ مِنْهُ وَأَغْضَضْنَا عَلَى الْقَذَى وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْمَوْتَ بَذَلْنَاهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَحَاكَمْنَاهُ إِلَى اللَّهِ فَنَادَى الْقَوْمُ بِأَجْمَعِهِمْ: بَلِ الْبَقِيَّةُ وَالْحَيَاةُ"(3).
فلاحظوا هذا التوصيف لحالهم في كلامه عليه السلام: "أَصْبَحْتُمُ الْآنَ وَدُنْيَاكُمْ أَمَامَ دِينِكُمْ... صِرْتُمُ الْيَوْمَ عَلَيْنَا... تَصُدُّونَ قَتِيلَيْنِ قَتِيلًا بِصِفِّينَ تَبْكُونَ عَلَيْهِمْ وَ قَتِيلًا بِالنَّهْرَوَانِ تَطْلُبُونَ بِثَأْرِهِمْ فَأَمَّا الْبَاكِي فَخَاذِلٌ..."، بل حثّهم عليه السلام على رفض عرض معاوية: "دَعَا إِلَى أَمْرٍ لَيْسَ فِيهِ عِزٌّ وَلَا نَصَفَةٌ" وأنّ قبول دعوة معاوية هو بسبب ركونهم إلى الحياة وتركهم البذل في ذات الله، ورغم ذلك كلّه كان جوابهم الواضح "فَنَادَى الْقَوْمُ بِأَجْمَعِهِمْ: بَلِ الْبَقِيَّةُ وَالْحَيَاةُ".
من هنا رأى الإمام الحسن عليه السلام أنّ أمامه معركة من نوع آخر وعليه أن يوفّر عناصر الانتصار فيها.
*معركة الرأي العام
من اللحظة الأولى عرف الإمام عليه السلام أنّ لديه مهمّة بناء المجتمع المؤمن، الموالي، المجاهد، صاحب البصيرة، الذي لا تنطلي عليه حيل وألاعيب معاوية ومَن على شاكلته من الطواغيت، ويمكن أن نطلق عليها تسمية معركة "البصيرة"، هذه المعركة التي سرعان ما زلّت قدما معاوية فيها وبدأ يفقد مواقعه، حيث إنّ شعوره بالنصر جعله يكشف عن وجهه الحقيقيّ ويتخلّى عن دهائه المعهود وتلبيسه للأمور، ويكفي شاهداً على ذلك كلمات معاوية حين دخل الكوفة: "يا أهل الكوفة! أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إنّ كلّ دم أصيب في هذه مطلول، وكلّ شرط شرطته فتحتَ قدميّ هاتين"(4).
وسرعان ما ظهر الخطأ الكبير الذي وقع فيه هؤلاء بتخاذلهم وتركهم الجهاد مع الإمام الحسن عليه السلام، وسرعان ما حسمت هذه المرحلة.
*صناعة الوجدان المرتبط بالإمام عليه السلام
لم يكن المسلمون بعيدين عن ثقافة الارتباط بالإمام الحسن عليه السلام، وقد تلوا الآيات القرآنية التي نزلت في فضله وسمعوا من جدّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الروايات في مَدحه، وبالأخصّ أهل العراق الذي عايشوا أنفاسه في بيت والده أمير المؤمنين عليه السلام، ولكن رغم ذلك كانت هناك تساؤلات لا بدّ من الإجابة عنها، ولا سيّما في موضوع الصلح مع معاوية، وقبول الإمام الحسن عليه السلام به، فقد رأوا الآثار السلبيّة لهذا الصلح وإلى أين أفْضت أمورهم ...
*فتنة ما بعد الصلح
عندما رأى الناس الآثار السلبيّة للصلح، وعندما وعوا ذلك، وبدل أن يلوموا أنفسهم على ترك الجهاد ودفع الإمام باتّجاه هذا الخيار المرّ، ألقوا باللوم على الإمام الحسن عليه السلام، بموقف يذكّرنا بما حصل مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام في مسألة التحكيم، كيف ألجأه هؤلاء لمثل هذا الخيار ثم خطّأوه وطلبوا منه التوبة؟
من الواضح أن أعداء الإمام عليه السلام كانوا يساعدون في إذكاء نار تلك الفتنة، فنجد عبد اللّه بن الزبير المعروف بعدائه للإمام عليه السلام يعيب على الإمام صلحه مع معاوية! فأجابه عليه السلام قائلاً: "ثمّ تزعم أنّي سلّمت الأمر لمعاوية، فكيف يكون ذلك –ويحك- كذلك؟ وأنا ابن أشجع العرب، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين... لم أفعل ذلك -ويحك- جبناً ولا ضعفاً، ولكنّه بايعني مثلك، وهو يطلبني ببرّه ويداجيني المودّة، ولم أثق بنصرته"(5). وكذلك نجد سفيان بن أبي ليلى يدخل على الإمام قائلاً: "السلام عليك يا مذلّ المؤمنين"، فيجيبه الإمام عليه السلام: "ويحك أيها الخارجي، لا تعنّفني، فإنّ الذي أحوجني إلى ما فعلت قَتْلكم أبي، وطعنكم إياي، وانتهابكم متاعي، وإنكم لمّا سرتم إلى صفّين كان دينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وَيحك أيها الخارجيّ! إنّي رأيت أهل الكوفة قوماً لا يوثق بهم، وما اعتزّ بهم إلّا من ذلّ، وليس أحد منهم يوافق رأي الآخر، ولقد لقي أبي منهم أموراً صعبة، وشدائد مرّة وهي أسرع البلاد خراباً، وأهلها هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً"(6). ونجد هذه الكلمة من هذا الخارجيّ سرت ودرجت على ألسن الكثيرين من أتباع الإمام عليه السلام(7)!
*في مواجهة الفتنة
هذا الأمر الخطير كان يمكن أن يتسبّب بفشل عودة القلوب إلى الإمام وارتباطها بمشروع الإمامة، ومن هنا كان لا بدّ للإمام من دفع هذه الفتنة وهذا ما قام به من خلال الخطوات التالية:
1- التوضيح بأنّ الصلح لم يكن خياره عليه السلام لو التزم أصحابه الجهاد، وهذا ما أكّد عليه في أكثر من مناسبة، كما أشرنا في الروايات السابقة، وكذلك قوله عليه السلام: "واللّه، إنّي ما سلّمت الأمر إلّا لأني لم أجد أنصاراً، ولو وجدت أنصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتّى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكن عرفت أهل الكوفة، وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً، إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول، ولا فعل، إنّهم لمختلفون، ويقولون لنا: إنّ قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا..."(8).
2- الإشارة إلى ما يمكن أن يحقّقه الصلح، وهو أمران أساسيّان:
الأول: حفظ الثلّة المؤمنة الباقية، فصحيح أنّ معاوية طارد أصحاب الإمام وأعمل فيهم السيف، ولكن لو ملك بالحسم العسكريّ لما أبقى منهم باقية.
والثاني: إعادة بناء المجتمع القادر على المواجهة لتحقيق النصر الإلهيّ الحاسم لاحقاً. وإلى كلا الأمرين يشير الإمام الحسن عليه السلام بقوله: "فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإن الله كلّ يوم هو في شأن"(9).
3– إعادة بناء الثقة، وترويج ثقافة التسليم للإمام المعصوم والطاعة له، سواء كانت الحكمة من العمل ظاهرة أو خافية، حيث ورد في الرواية لَمَّا صَالَحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَلَامَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَيْعَتِهِ فَقَالَ الْحَسَنُ عليه السلام: "وَيْحَكُمْ، مَا تَدْرُونَ مَا عَمِلْتُ؟ وَاللَّهِ الَّذِي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَلَا تَعْلَمُونَ أَنِّي إِمَامُكُمْ وَمُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُمْ وَأَحَدُ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِنَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَيَّ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الْخَضِرَ لَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ وَأَقَامَ الْجِدَارَ وَقَتَلَ الْغُلَامَ كَانَ ذَلِكَ سَخَطاً لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام إِذْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً؟"(10).
*خاتمة المطاف
لقد كانت الأمور واضحة تماماً لدى الإمام الحسن عليه السلام يرسمها بخطى ثابتة ودور متكامل في مسار تاريخيّ يصنعه الأئمة عليهم السلام حجراً فحجراً، ويمهّد الأمر لما بعد معاوية، حيث ستكون طبيعة المواجهة أوضح لدى عامة المسلمين، وهو القائل: "فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته، ما دام معاوية حيّاً، فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا اللّه العزيمة على رشدنا، والمعونة على أمرنا، وأن لا يَكلنا إلى أنفسنا، فإنّ اللّه مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون"(11). وهو بذلك يمهّد لمدرسة كربلاء ثورة العزم والإرادة، التي ستخرّج أجيال الثبات والجهاد والولاية...
1- نهج البلاغة، خطبة 27.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج44، ص20.
3- (م.ن)، ص21.
4- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديدة،ج16، ص4.
5- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي الهاشمي، ج19، ص148.
6- تذكرة الخواص، ابن الجوزي، ص207.
7- راجع: تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص308.
8- بحار الأنوار، (م.س)، ص147.
9- الأخبار الطوال، ابن قتيبة، ص220.
10- بحار الأنوار، (م.س)، ص19.
11- الإمامة والسياسة، ابن قتيبة، ج1، ص260.