الشيخ موسى خشّاب
جرت العادة أن ينتصر القويّ على الضعيف، والعَزيز على
الذليل، والكَثرة على القلّة، هكذا هي سنّة الطبيعة وقوانين المادّة.
* معادلات من الغيب
لكن، حين ترتبط فئة من البشر بالغيب فإنّ من نتائج هذا الارتباط إرساء معادلات
جديدة:
1- وراثة المستضعفين للأرض
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5).
2- نَصْر المؤمنين وهم أذلّة
﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ
وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (آل عمران: 123).
3- غلَبة الفئة القليلة للفئة الكثيرة
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ
قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي
وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ
فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ
آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249). كلّ هذه النتائج، لم تكن لتتحقّق لولا
امتداد يد الغيب إليهم.
فما هو هذا المدد الغيبيّ؟ وكيف يتحقّق؟ وما هي شروطه؟ ومتى تتدخّل يد الغيب؟
أسئلة تجد الإجابة عنها في طيّات سطور هذه المقالة.
* كيف يَنصر الله المؤمنين
وعَد الله تعالى عباده المؤمنين بالنصر، فقال تعالى:
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47). وبيَّن تعالى الشرط الأساس لنَصرهم حين قال
عزّ من قائل:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ (محمد:7). فالواجب على المؤمنين أن يضعوا الخُطط، ويعدّوا
العدّة، ويُحسنوا التجهيز، وينظّموا صفوفهم، ويستَطلعوا أخبار العدوّ، وكلّ ما
يتعلّق بتحرّف القتال، ويتوكّلوا على الله تعالى، ويبتعدوا عن الغرور... كلّ هذه
العوامل وغيرها، تهيّئ الأرضيّة لنزول النصر الإلهيّ عليهم. ولكن، كيف ينصر الله
المؤمنين ويَهزِم الكافرين؟
* النصر من الغيب
ليس النصر الإلهيّ أمراً غيبياً بالمطلق، بل هو أمر منشؤه الغيب، لكنّ المؤمنين
يلمسونه ويَرونه ويشاهدون مراحله وتجلّياته وصولاً إلى مرحلة الانتصار النهائيّ.
فالمؤكّد أنّ النصر من عند الله. ولكن، الله تعالى أبى أن تجري الأمور إلّا
بأسبابها. وسوف نبيّن هذه الحقيقة، من خلال مطالعة أحداث أولى معارك المؤمنين مع
المشركين، في بدر، لنرى مدَدَ السماء بشكلٍ ملموس، ونشاهد المكر والكيد الإلهيّين
﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *
وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ (الطارق: 15-16)
﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ
خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30). فقد رافق المدد الغيبيّ المؤمنين منذ بداية
الحديث عن المعركة إلى حين الانتصار من خلال مجريات معيّنة أدّت إلى الانتصار، ولم
تقتصر تلك المجريات والأحداث على المؤمنين، بل هناك مسار تدريجيّ أخذ المشركين
والكافرين إلى الهزيمة. ويمكن أن نعتبر أهمّ سبب لنَصر المؤمنين وهزيمة الكافرين هو
الروح المعنوية للقتال، فلا يخفى الفرق بين من يقاتل بروح انهزامية ومن يقاتل وكلّه
أمل بالنصر، فهؤلاء جنود طالوت الذين عبروا معه النهر ينقسمون إلى فئتين: فئة محبطة
تقول:
﴿لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ
وَجُنودِهِ﴾
(البقرة: 249) وفئة مطمئنة تقول:
﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ
فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: 249) فكانت النتيجة
﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البقرة: 251) وقُتل جالوت بيدِ أصغر مقاتل في جيش
طالوت وهو داود عليه السلام.. ولنبدأ بقراءة الواقع قبل معركة بدر.
* التهديد الأول: التنازع والفشل
من التهديدات ذات الصلة بالنصر وقد يتحقق أحياناً ما حدّثنا به القرآن الكريم عن
اختلاف بين المؤمنين، كان يمكن أن يصل إلى النزاع، ومن ثمّ إلى الفشل، بسبب كراهة
بعض المؤمنين الخروج إلى المعركة. يقول تعالى:
﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ (الأنفال: 5). وهذا الفريق كان يجادل بقوّة ويدافع عن رأيه
دفاع الشخص الذي يُساق إلى حتفه
﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا
تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ (الأنفال: 6).
من جهة أخرى، كان الأعداء يعيشون الحماسة للقاء المسلمين، ويرون أنّ هزيمتهم حتمية
بسبب قلّة عددهم، مضافاً إلى أنّ قصة أصحاب الفيل جعلت قريشاً وسائر العرب يعتقدون
أنّ كلّ مَن يقصد قريشاً بسوء، فسوف يرسل الله عليه العذاب. وباختصار، لقد كانت
قريش واثقة من النصر الحتميّ.
* الحلّ الإلهيّ للتهديد الأوّل
أولاً: حلّ مشكلة التنازع بين المسلمين: كان الحلّ الإلهي لتلك المشكلة أن
يوحّد رأي المسلمين بأن يعزموا على لقاء الكافرين في ساحة المعركة دون تردّد. فكيف
تم هذا الأمر؟
ثانياً: المدد الغيبيّ يحل المشكلة: في بدر امتدّت يد الغيب إلى المؤمنين
بأن رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامه رؤيا كانت هي مفتاح الحلّ. فما
هي هذه الرؤيا؟
يقول تعالى:
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلاً﴾ (الأنفال: 43). لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أعداد المشركين قليلة فحدّث المسلمين بذلك ممّا جعلهم يجمعون عزمهم على لقاء
الكافرين ولم يعد أصحاب الرأي الآخر يجرؤون على البوح برأيهم، ويؤكّد القرآن الكريم
ذلك بقوله:
﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثيرًا
لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (الأنفال: 43).
وحين خرج المسلمون والتقوا مع الكافرين رأى المسلمون المشركين قليلاً، كما رآهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عِلماً أنّ عدد المشركين كان ثلاثة أضعاف عدد
المسلمين، ولكنّ الله تعالى أراد أن يبقي العزم قوياً عند المسلمين
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾ (الأنفال: 44).
أما بالنسبة إلى المشركين وثقتهم، فنرى التدخّل الغيبي جليّاً من خلال تقليل
المسلمين بأعين الكافرين
﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ (الأنفال: 44). وكان الهدف الإلهيّ من ذلك أن يصاب
الكافرون بالغرور، ليكون ذلك الغرور مقدّمة للهزيمة، ولكن كيف؟
حين التحم الطرفان تبدّلت الرؤيا، فقد رأى المشركون أنّ عدد المسلمين ضعف عددهم
﴿يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ
الْعَيْنِ﴾ (آل عمران: 13) وتحوّلت الثقة إلى إحباط فوَهَن عَزم
الكافرين
﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ
الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: 18). فقد وجّه الله تعالى بذلك ضربة
قاسية للروح المعنوية عند المشركين.
* التهديد الثاني: القلق والاضطراب
تمثّلت المشكلة الثانية في أنّ المشركين كانوا قد سبقوا المسلمين إلى الماء قبل بدء
المعركة، فنزل المسلمون في كثيب رمل لا يصلح للقتال، ويصعب التحرّك فيه، لأنّ
الأقدام تسوخ فيه، كما إنّهم كانوا عطاشى وكانوا يسعون للوصول إلى الماء قبل
المشركين، لكنّهم لم يوفّقوا لذلك. وهنا، انطلقت الوساوس الشيطانيّة من شياطين
الإنس والجنّ، ما أوجد حالة من القلق والاضطراب في صفوف المسلمين، وتأثّرت حالتهم
المعنويّة بذلك.
في المقابل، كان المشركون يقفون في منطقة صالحة للقتال والماء تحت سيطرتهم، وكما
ذكرنا، فإنّ الله قلّل المؤمنين في أعينهم إلى درجة صاروا يعتبرونهم لقمة سائغة.
* الحل الإلهيّ للتهديد الثاني
وهنا امتدّت يد الغيب مرة أخرى إلى المؤمنين لإزالة القلق والاضطراب من قلوبهم،
ولكن كيف؟
لم يكن المؤمنون يتوقّعون هطول المطر. ولعلّهم لم يصدّقوا أنّ قطرات المطر تلامس
وجَناتهم. لكن، غزارة المطر فَعَلت فعلها فحوّلت الرمال المتحركة إلى رمال تشبه
الرمال التي يلامسها موج البحر فثبتت أقدامهم، وارتوى عطشهم، وتطهّروا بها، وزال
القلق والاضطراب من نفوسهم وربط الله على قلوبهم بعد أن كادت تصبح فارغة. قال
تعالى:
﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾
(الأنفال: 11).
وفي المقابل، تحوّلت الأرض تحت أقدام المشركين إلى أرض موحلة، تثقل حركتهم فكان ذلك
عاملاً إضافياً في توهين عَزمهم وكيدهم.
* الملائكة وتثبيت المؤمنين
بشّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بشرى "إمدادهم بالملائكة"، التي
جعلت قلوبهم مطمئنة. قال تعالى:
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ
يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
مُنْزَلِينَ﴾ (آل عمران: 124). إنّ سماع المؤمنين بنزول ثلاثة آلاف من
الملائكة لنصرهم كفيل برفع روحهم المعنويّة، واطمئنان قلوبهم، وشعورهم أنّ السماء
معهم وأنّ الله ناصرهم. ولكن، ما هو الدور الذي قامت به الملائكة؟ وهل قاتلت إلى
جانبهم؟
يبيّن القرآن الكريم دور الملائكة من خلال قوله تعالى:
﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ (الأنفال: 12). فقد كان دور الملائكة هو تثبيت المؤمنين،
وذلك من خلال تقوية الروح المعنويّة لديهم. ففي رواية أنّه كان الملك يأتي الرجل من
أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: "سمعت المشركين يقولون: والله لئن
حملوا علينا لنُكشفنّ"، فيحدّث المسلمون بعضهم بعضاً فيقوّي أنفسهم بذلك(1). أو
من خلال تبشيرهم بالنصر. ففي رواية أنّ الملك كان يسير أمام الصفّ في صورة الرجل،
ويقول: أبشروا فإنّ الله ناصركم(2). أو من خلال وسائل أخرى كانت من فعل الملائكة في
تلك المعركة.
إنّه باختصار الثبات، فلا نَصر دون ثبات. وقد قام الله تعالى بتثبيت المؤمنين من
خلال رفع الروح المعنويّة لديهم ومن خلال وسائل وعلل غيبيّة، كما ورد معنا وبيّنه
القرآن.
وهناك العديد من أسباب النصر وأشكال التدخل الإلهيّ الأخرى، ذكرها القرآن
الكريم، ولكن لا تتّسع لها هذه السطور(3).
1- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج5، ص87.
2- مدارك التنزيل وحقائق التأويل، ج2، ص57.
3- على سبيل المثال لا الحصر، الآية 9 من سورة الأحزاب:﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾.