الشيخ محمود كرنيب
عندما أردت الكتابة لهذا الموضوع ذي العنوان أعلاه "علي والمسجد" شرعت بالبحث عن
مادة للكتابة تفيدني وبحثت عن هذا العنوان في الموسوعات المؤلفة حول سيرة وحياة
الإمام علي عليه السلام فلم أجد أحداً ممن تيسر لي قراءة كتبهم تعرض لهذا العنوان
مستقلاً ولعل هناك من كتب في هذا الموضوع إلا انه لم يتسنَّ لي الإطلاع عليه، غير
أني أعذر المؤلفين حول حياته عليه السلام والمحللين لها والدارسين إذ أن المسجد في
حياة المسلمين بشكل عام وعلاقتهم به أمر بديهي وطبيعي ولا يشذ عنها مسلم حقيقي إذ
المساجد على حد تعبير صادق أهل البيت عليهم السلام عندما سئل عن العلة في تعظيم
المساجد فقال: "إنما أمر بتعظيم المساجد لأنها بيوت الله في الأرض".
وعلي عليه السلام إمام كل فضيلة ورأس كل منقبة ومن هذه
الأمة وطبيعي أن يكون في علاقته بالمسجد منطلقاً من هذا المفهوم الإسلامي والعناية
الإلهية بهذه الأماكن:
ولعلي استطيع أن أقارب بعض الشيء سر العلاقة بين علي والمسجد. علي عليه
السلام كالكعبة: إن الكعبة البيت الحرام هي أول المساجد على ما نقل لنا القرآن
الكريم "إن أول بيت وضع للناس للّذي ببكة". الكعبة المسجد الحرام قبلة وجوه
المصلين وقلوب الراغبين إلى الله إليها تهفو النفوس وتحن القلوب؛ إليها يحج الناس
وعندها يجتمعون وحولها يدورون "طوافاً" وبنص الحديث النبوي: "مثل علي فيكم كمثل
الكعبة". فعلي كمثل الكعبة إذ هو قبلة الحق وطالبي الحق والحقيقة ومطاف الحق
وطالبيه "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار". وعلي عليه السلام
قبلة الأحرار ودليل المتحيرين في المسالك إلى الله عز وجل، "إذا سلك الناس واديا
وسلك علي واديا فاسلك وادي علي". وعلي عليه السلام قبلة طالبي العلم وباب
ولوجهم إلى رحابه "أنا مدينة العلم وعلي بابها" وعلي عليه السلام باب
الراغبين في الله الساعين للقائه: فلا غرو أن يقال في علي فولوا وجوهكم شطر علي في
أمر الله كما نولي وجوهنا شطر المسجد الحرام.
من هنا استطيع أن أفهم مراحل العلاقة بين علي عليه السلام
والمسجد ورمزيتها:
1- وليد الكعبة:
فلقد كانت بداية علي عليه السلام مع المسجد منذ أن أذن الله عز وجل للنور العَلويَ
العُلوي أن يتنزل ليشرق على الدنيا واختار عز وجل لهذا النور مشرقاً وأي مشرق إنه
الكعبة البيت العتيق. إذ أن الحديث عن ولادته عليه السلام في جوف الكعبة مما تطابق
على إثباته الرواة من الفريقين وقال بعضهم بتواتر الرواية في ذلك بل زاد بعضهم انه
لم يحدث أن ولد قبله أو بعده احد في جوف الكعبة، بل إن البعض عد ذلك من المناقب له
عليه السلام التي يستدل بها على أفضليته على غيره.
2- بيته في المسجد:
فعن أبي عمر عندما سئل عن منزلة علي من الرسول صلى الله عليه وآله: "ما في
المسجد بيت غير بيته".
3- لا باب إلا باب علي عليه السلام:
بل أكثر من ذلك فإن الرسول أمر بسد أبواب البيوت التي كانت إلى المسجد إلا باب علي
عليه السلام . فعن ابن عباس قال: "أمر رسول الله بأبواب المسجد فسدت إلا باب
علي...". وعندما سئل عن ذلك قال صلى الله عليه وآله "... أمرت بسد هذه
الأبواب غير باب علي وقال فيه قائلكم والله ما سددته ولا فتحته ولكني أُمرت
فاتبعته". إذاً هو أمر إلهي أن لا يكون باب إلى المسجد إلا باب علي.
4- التصدق بالخاتم:
ومن الأمور الملفتة أن حادثة تصدقه بالخاتم كانت في المسجد لتخلد قراناً يعلن الله
فيه الولاية لعلي عليه السلام حصراً دون غيره:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.
5- مجلس قضائه بين الناس:
لقد تحدثت كتب السير أن علياً عليه السلام كان يجلس في مسجد الكوفة ليقضي بين الناس
في مكان لا زال يعرف حتى الآن بدكة القضاء، وفيه ظهرت آيات إعجاز قضائه عليه
السلام.
6- منبره:
ولقد كان علي عليه السلام في مسجد الكوفة يجلس ليبث علومه ومواعظه خطيباً ومتحدثاً
ومجيباً من على منبر المسجد ليفيض بعلمه الذي حباه الله به وليعلن كلمة لم يجرؤ على
قولها غيره: "سلوني قبل أن تفقدوني".
7 - مكان شهادته:
وأيضاً فإن شهادته عليه السلام كانت على أثر ضربة ابن ملجم اللعين له بالسيف في
مسجد الكوفة بينما كان يصلي صلاة الصبح.
8 - مجلسه المفضل:
فعنه عليه السلام: "الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة لان الجنة فيها
رضا نفسي والجامع فيه رضا ربي" ما أروعها كلمات تلخص عمق العلاقة بين الإمام
علي والمسجد.
* خاتمة:
فالعلاقة بين علي عليه السلام والمسجد اكبر من أن تختصرها حكاية أو ترويها كلمات
فالمسجد بالنسبة لعلي عليه السلام هو البداية وهو مسرح الحدث ومحور الحياة والهدى
وميدان الجهاد ومنطلق الجيوش وفيه الفصل في الخصومات وهو نقطة انبلاج الفجر... وفيه
كان أذان العروج... فمن المسجد كان النزول ومنه كان العروج ولعل في ذلك إشارة غير
خفية على محورية المسجد في حياة علي عليه السلام ومحورية علي بالنسبة إلى أهل
القبلة والصلاة... فليكن في ذلك درس من علي... وليكن الدرس أن المسجد عنوان حياتنا
ونقطة انطلاقنا ومسرح جهادنا وجهدنا ومنه منطلق عروجنا بصلاتنا إلى المولى عز وجل.
ليكن المسجد المحور والمنطلق.