الشيخ بسّام حسين
لا يخفى على أحد ممن يطالع السيرة الحسينيّة الدورُ
الكبيرُ الذي قامت به المرأة في سبيل نهضة سيّد الشهداء عليه السلام، خصوصاً تلك
الحرائر من آل بيت النبوّة اللواتي بَقين بعد واقعة الطفّ وسُبِينَ كما تُسبى
الإماء. لكنّهنّ استطعن أن يحوّلن هذا السبي إلى ثورة في وجه أولئك الظلمة والطغاة،
بدل الاستسلام لذلّ الأسر، وهوان السبي.
إلّا أنّ هناك نساءً أخريات كان لهنّ دورٌ فاعلٌ في بعض محطّات الثورة الحسينية،
وحَظينَ بشرف المشاركة والنصرة، نحتاج إلى التأمّل في مواقفهنّ لاستفادة الدروس
والعبر، وسوف نأخذ نموذجاً من الكوفة وآخر من البصرة وثالثاً في الطريق إلى كربلاء.
*السيدة طوعة:
وهي أمّ ولد، كانت للأشعث بن قيس الكنديّ، وقد أعتقها فتزوّجها بعد ذلك شخص يقال له
"أسيد الحضرمي"، فولدت له ولداً يُسمّى بلالاً.
وقد برزت هذه المرأة، طوعة، في الكوفة، في موقفها الشهير الذي آوت فيه سفير الإمام
الحسين عليه السلام، مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه)، في دارها.
فبَعد أن غدر بمسلم أهل الكوفة وبقي وحيداً فريداً لا يجد من يدلّه على الطريق، مضى
على وجهه متردّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتّى خرج إلى دور بني جبلّة
من كندة، فمشى حتّى انتهى إلى باب طوعة، وكان ولدها بلال قد خرج مع الناس وأمّه
قائمة تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيل فردّت عليه، فقال لها: يا أَمَةَ الله اسقيني
ماءً، فسقته وجلس وأدخلت الإناء، ثم خرجت فقالت: يا عبد الله ألَم تشرب؟ قال: بلى،
قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، ثمّ أعادت مثل ذلك، فسكت، ثم قالت له في الثالثة:
سبحان الله! يا عبد الله قم عافاك الله إلى أهلك فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي،
ولا أحلّه لك. فقام وقال: يا أمة الله، ما لي في هذا المِصر منزل ولا عشيرة، فهل لك
في أجر ومعروف، لعلّي مكافئكِ بعد اليوم؟ فقالت: يا عبد الله وما ذاك؟ قال: أنا
مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني، قالت: أنت مسلم؟ قال: نعم،
قالت: ادخل، فدخل بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له وعرضت عليه
العشاء فلم يتعشّ.
ولم يكن بأسرع أن جاء ابنها، فرآها تُكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال لها:
والله إنّه ليريبني كَثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه، إنّ لك لشأناً،
قالت: يا بني الهُ عن هذا، قال: والله لتخبرينني، قالت: أَقبِل على شأنك ولا تسألني
عن شيء، فألَحَّ عليها فقالت: يا بنيّ لا تخبرنّ أحداً من الناس بشيء مِمَّا أخبرك
به، قال: نعم، فأخذت عليه الأيمان فحلف لها، فأخبرته فاضطجع وسكت(1). إلى آخر ما
جرى من أحداث انتهت بشهادة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه.
*موقف متميّز
وقد تميّز موقف هذه المرأة بالأمور الآتية:
1 - العفّة والحجاب، حيث كانت تأنف من جلوس رجل أجنبيّ على باب دارها، ومن ثمّ
أدخلته إلى بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه.
2 - السرّية والكتمان، إذ إنّها سعت إلى إخفاء أمره حتى عن ولدها بلال، لكنّها بعد
أن شعرت بأن لا مجال لذلك أخذت على ولدها العهود والأيمان أن لا يخبر أحداً، سعياً
منها للحفاظ على سلامته.
3 - حسن الضيافة والإكرام، حيث قدّمت له الماء، ثمّ لما عرفته رحّبت به واستضافته
وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل، وفرشت له.
4 - الشجاعة والإقدام، حيث استطاعت هذه المرأة أن تقوم بأمر تخلّى عنه كلّ أهل
الكوفة، نساءً ورجالاً، وهذا من العبر التي تستحقّ أن يقف عندها القارئ.
يقول العلّامة السيد المقرّم رحمه الله: أصحيح أن امرأة تفوق الرجال في الفضائل
والفواضل؟ نعم إنّ ذلك لِمَا حملته بين ضلوعها من طهارة النفس، وشرف المنبت،
والولاء الصحيح لأهل هذا البيت، فقامت بما يرضي الله ورسوله، ويحبّذه الشرف
والإنسانيّة، ويدعو إليه الخطر، والناس يتمايزون بالنفسيّات الكريمة والغرائز
الطيّبة والعمل الصالح.
وماذا على طوعة وقد طاوعتها نفسها على متابعة العقل واقتصاص أثر الدين، وأداء أجر
الرسالة بإيواء ابن عم سيّد الشهداء وممثّله الفذّ، فتحلّت بما تخلّى عنه ذوو
الهِمم القاصرة والنفوس الضعيفة والحلوم الضئيلة، فشعّ نورها بين هاتيك الظلم
المدلهمّة كما شاع ذكرها في الجوامع والزبر، وفي ثنايا الحقب والأجيال المتتالية،
فهي حيّة بعمرها الثاني حتى يُسكنها الله تعالى الخلد محبورة في جوار المصطفى
ووصيّه المرتضى(2).
*مارية بنت منقذ العبدية
وقد برز اسم هذه المرأة في أحد أهمّ الاجتماعات التي عُقدت في البصرة، حيث جاء
التعبير عنها بأنّ بيتها كان مألفاً للشيعة، يجتمعون ويتحدّثون ويخطّطون فيه، في
ظلّ أوضاع أمنيّة صعبة.
تقول الرواية: اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس، يُقال لها
مارية ابنة سعد أو منقذ وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه، وقد
بلغ ابن زياد إقبال الحسين فكتب إلى عامله بالبصرة، أن يضع المناظر ويأخذ بالطريق،
قال الراوي: فأجمع يزيد بن نبيط (أو ثبيط) الخروج - وهو من عبد القيس - إلى الحسين،
وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنين له: عبد الله وعبيد
الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعت على الخروج وأنا خارج، فقالوا
له: إنّا نخاف عليك أصحاب ابن زياد، فقال: إنّي والله لو قد استوت أخفافهما بالجُدد
لهان عليّ طلب من طلبني، إلى آخر الرواية التي تتحدّث عن التحاقه وولديْه بالحسين
عليه السلام واستشهادهم بين يديه صلوات الله عليه(3).
*دلهم بنت عمرو
وهي زوجة زهير بن القين، وقد برزت كمثالٍ للزوجة المجاهدة المؤمنة الصابرة
والمضحّية التي تحثّ زوجها على الجهاد والوقوف إلى جانب الحق والدفاع عن إمام
زمانها مهما غَلَت التضحيات.
فقد روى أبو مخنف عن بعض الفزاريين أنّه قال: كنا مع زهير بن القين حين أقبلنا من
مكّة نساير الحسين عليه السلام، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا
سار الحسين عليه السلام تخلّف زهير، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتى نزلنا يوماً
في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب، ونزلنا في جانب، فبينا
نحن نتغذى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين فسلّم ودخل، فقال: يا زهير بن القين
إنّ أبا عبد الله الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيه، فطرح كلّ إنسان منّا ما في يده
حتى كأنّ على رؤوسنا الطير.
قال أبو مخنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو، امرأة زهير قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن
رسول الله ثم لا تأتيه؟ سبحان الله لو أتيتَه فسمعت من كلامه ثمّ انصرفَت، قالت:
فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله
ومتاعه، فقوّض وحمل إلى الحسين عليه السلام، ثم قال لي: أنت طالق، الحقي بأهلك،
فإني لا أحبّ أن يصيبك بسببي إلا خير، ثم قال لأصحابه: مَن أحبّ منكم أن يتبعني
وإلا فإنّه آخر العهد، إنّي سأحدّثكم حديثاً، غزونا بلنجر(4)، ففتح الله علينا
وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من المغانم؟
فقلنا: نعم. فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم
فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من المغانم، فأمّا أنا فإنّي أستودعكم
الله، قال: ثم والله ما زال أول القوم حتّى قتل معه(5).
والذي يظهر أنّ زهيراً قام بطلاقها رغم أنّها حثّته على طريق الهداية والنجاة،
لئلّا تصاب بسببه بأذى باعتبارها زوجته، كأن تُسبى أو يهدم دارها أو تُسجن أو غير
ذلك من الأساليب، خصوصاً أننا نجد في بعض ما روي عنها أنّ ردّة فعلها لم تكن سوى
الرضا وطلب الشفاعة من زهير، فعندما ودّعته قالت له: خار الله لك، أسألك أن تذكرني
يوم القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام(6).
1-
الإرشاد، المفيد، ج2، ص 54- 55.
2- الشهيد مسلم بن عقيل عليه السلام، السيد عبد الرزاق المقرّم، ص135.
3- تاريخ الطبري، الطبري، ج4، ص 263.
4- وهي مدينة ببلاد الروم - الخزر - خلف باب الأبواب.
5- بحار الأنوار، المجلسي، ج 33، ص 372.
6- أعلام النساء المؤمنات، محمد الحسون، ومشكور أم علي، ص341.