نهى عبد الله
"بين الحق والباطل، أربع أصابع" وهي المسافة بين الأذن والعين. هكذا ميّز أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بين ما نسمعه دون تحقّق، فيكون باطلاً، وبين ما نشهده ونختبره ليكون حقاً، فالمعيار هو التحقّق. كيف يمكن التحقّق من الأخبار التي تُضَخُّ بوتيرة عالية، قبل تصديقها على الأقل؟
*كالنار في الهشيم
أُعدّت تجربة لمعرفة الآليّة التي تنتشر بها الشائعة، من الأفراد إلى مجموعات، وكانت خبراً مفاده أنّ "امتحان مادّة الرياضيّات قد سُرق"، وجرى بثّه بين طلّاب إحدى المدارس قبل امتحان نهاية العام بقليل. انتشرت، بشكل رهيب، بين الطلّاب وفي وقت وجيز… بل وتسرّبت خارج المدرسة. الأدهى من ذلك أنّ الشائعة قد تغيّرت؛ لأنّ الطلاب ربطوا بين حادثة منفصلة (معاقبة بعض طلّاب المدرسة) وبين الخبر، ثمّ تعدّى الخبر إلى فصلهم من المدرسة. كانت النتيجة أنّ الخبر أصبح: "تمّ فصل بعض الطلّاب لسرقتهم امتحان الرياضيّات".
فالشائعة تنتقل بهذه المرونة: حينما يقوم (أ) بإبلاغ (ب) بخبر ما، فإنّ (ب) يتلقّى هذا الخبر ثمّ يعيد صياغته من جديد، وذلك بإضافة معلومة جديدة للخبر أو بحذف معلومة منه، ليصبح موضع الخبر أكثر ملاءمة لمستواه التعليميّ، والثقافيّ، وطريقة تفكيره. بعدها يقوم (ب) بنقل الخبر إلى (ج) الذي بدوره سيعيد صياغته مرة أخرى؛ ليصبح ذا معنى بالنسبة له. بعد ذلك يقوم بنقله إلى آخرين... وهكذا دواليك.
*احتمالات دقّة الخبر
وهنا تنقسم الاحتمالات لصحّة الخبر ودقّته:
1- خبر أساسه صحيح، لكنه يحمل إضافات كاذبة غير مقصودة، لأنّ تعدّد الوسائط العشوائيّة الناقلة سيحرّف الخبر لا محالة.
2- خبر أساسه صحيح، لكنّه يحمل إضافات كاذبة مقصودة (بهدف تشويه الحقيقة مثلاً).
3- خبر كاذب، ويحمل إضافات كاذبة غير مقصودة.
4- خبر كاذب، ويحمل إضافات كاذبة مقصودة ومخطّط لها (وهو الأخطر).
ومستوى الخطورة يعود إلى إثارة الشائعات التي تطال موضوعاً حيويّاً أو يمكن أن تشكّل دافعاً لردود فعل عامّة، كما يحصل وقت الحروب. وقد جرت محاولات لتحديد معيار الشائعة الأخطر:
شدّة الشائعة = الأهمية × الغموض. أي إنّ ما يجب التدقيق به: أهميّة الموضوع والجزء الغامض.
*التدقيق في الخبر
إنّ تحويل الخبر من مرحلة الأذن إلى العين، يحتاج المرور بالأربع أصابع، عبر خطوات أوّلية للتدقيق:
1- تمييز ملامح الشائعة في الخبر:
للشائعة سمات ترتبط بنجاح انتشارها، وهي تساعدنا على تمييزها عن الحقيقة:
أ- تحمل خبراً أو معلومة غير مؤكّدة وغير دقيقة.
ب- تفتقر إلى مصدر أو ترتبط بما يوحي أنّه مصدر: كاسم وكالة غير معروفة، أو خبير غير معروف، أو تعمّم المصدر بـ (مصدر رسميّ مجهول)!
ج- ليست أفكاراً جديدة، بل أخبار ترتبط بأحداث أو أشخاص أو مواقف.
د- غالباً تحمل مبالغات.
هـ- لها قابلية الانتشار والجاذبيّة والتشويق وتثير الحشريّة.
و- الغموض في جزء منها، ووظيفته إثارة الجدال والاهتمام لضمان انتشارها.
ز- أحياناً تكون خارج السياق المتوقّع، مثلاً: فلان كذب الآن، في حين أنّ صدقه معروف ومجرّب.
2- إدارة التلقي:
كيف يكون التلقّي الصحيح واستيعاب الخبر قبل إصدار الحكم عليه أو التصديق به، فضلاً عن القيام بأي فعل مبنيّ عليه؟ هناك ثلاث حالات من التلقّي:
أ- التلقّي العاطفي (الشائع): هي الحالة التي يتلقّى بها الشخص الشائعة وهو تحت تأثير العاطفة وليس العقل، فهو يعمد غالباً إلى تصديق الشائعة حتّى وإن لم تكن منطقيّة بالنسبة إليه. وهذا النوع من التلقّي يحدث بكثرة وقت الأزمات.
ب- التلقّي المحايد: حينما لا يملك المتلقّي معلومات عن الخبر، لكنّه لا يخضع لأيّ تأثير عاطفيّ تجاهه، فإنّه في هذه الحالة سيكون حيادياً، أي أنّ الخبر لا يمثّل له أيّ أهميّة، لذلك يتلقّاه بعدم اكتراث ولا تفاعل، ثمّ ينقله إلى شخص آخر، بعدم اكتراث أيضاً. لكنّه حينما ينسى بعض الكلمات أو الأرقام يقوم بتعويض ما نقص من تلقاء نفسه، لذلك يحصل التعارض بين الشائعات.
ج- التلقّي النقدي: حينما يكون الشخص ملمّاً بمعلومات، وبقدر كافٍ من المعرفة حول موضوع الشائعة، فإنّه يستطيع أن يستخدم تفكيره النقديّ في تحليل الخبر، ويكون لديه تتابع منطقيّ، فهو يسمع ثمّ يحلّل ثمّ ينقّي الخبر من الشوائب والمبالغات، ثمّ ينقله أو يقرّر عدم نقله في حال اكتشف كذبه.
والمطلوب في إدارة التلقّي، هو:
أولاً: التحرّر من أيّ تأثير عاطفيّ للخبر، مهما كان الموضوع حيوياً ويمسّ أهمّ القضايا أو الأشخاص في حياتنا.
ثانياً: اتّخاذ الموقف المحايد في حال نقص المعلومات أو عدم أهميّة الموضوع، دون التسرّع بنقله، وإضافة معلومات غير دقيقة.
ثالثاً: في حال وجود أهميّة للموضوع، محاولة تحصيل قدرٍ كافٍ من المعلومات لتكوين التلقّي النقديّ. وهو المرحلة الثالثة.
3- نقد الخبر:
قد تبيّن أنّ من سمات الشائعة عدم ارتباطها بمصدر، وتوافر جانب غامض منها، وخروجها أحياناً عن سياق معروف، فضلاً عن الإضافات الجانبيّة لوسائط النقل... هذه السمّات يجب أن ترتكز في ذهن المتلقّي ليطرح الأسئلة التالية:
أ- من/ ما هو مصدر الخبر الرئيس، وليس الوسائط؟
ب- هل هو معنيّ بالأمر، وموثوق، ولديه مصداقيّة وصلاحيّة لنقل هذا الخبر؟ (الواتس آب مثلاً ليس مصدراً موثوقاً لتلقّي نبأ استشهاد لعدم صلاحيته، وسهولة التلفيق، والابتكار وتعدّد الوسائط).
ج- ما الهدف من تمرير الخبر؟ ولمصلحة من يعود؟ (دراسة الآثار واحتمالات الصحّة والكذب).
د- هل يمكن تصديق الخبر؟
هـ- هل يوجد تناقض بينه وبين معلومات سابقة مؤكّدة في السياق نفسه أم ينسجم معها؟
ز- ماذا لو تبيّن كذبه؟
ح- ما هو الجزء المؤكّد وما هو الجزء الغامض؟ (تحليل أجزاء الخبر والتحقّق من صحة كلّ جزء، ثمّ صحّة العلاقة بينها).
ط- كيف يمكن إزالة الغموض؟ (مثلاً يشاع خبر عن وباء قاتل يخلق هلعاً في منطقة ما، فيتمّ إزلة الغموض عبر تحديد اسم المرض، ثمّ البحث عن أسباب انتشاره وآثاره وخطورته من مصدر معنيّ: مستشفى أو طبيب مختصّ أو موقع طبيّ موثوق... وليس من الجار أو الصديق المصابين بالهلع، فقد يكون أبسط ممّا تمّ تصويره).
إنّ الإجابة الواضحة عن هذه الأسئلة كفيلة بتصحيح مسار الأخبار التي تصلنا كلّ دقيقة، والحفاظ على ردّة الفعل الحيادية؛ تجنباً للخضوع لأيّ تأثير عاطفي سيؤثّر سلباً على ردود الأفعال، بل تتيح عملية النقد للمتلقّي أن يتصرّف بشكل سويّ في حال كانت بعض أجزاء الخبر صحيحةً.
4- بناء ردّة الفعل المناسبة:
في حال كانت الشائعة خطرة ومقصودة، أو غير مقصودة، ردّة الفعل هي الثمرة التي يجب الحفاظ عليها، لأنها تُفشِل مخطّطاً مقصوداً، بل قد تحوّله إلى فرصة استفادة من العدو غالباً، وعلى الأقلّ تحافظ على الروح المعنويّة قويّة وعالية. لذلك، على المتلقّي التفكير بجوانب هامّة إن وصل إلى الحقيقة أو تعذّرت عليه:
أ- في حال صدق الخبر، ما هو الموقف المناسب؟
ب- ما هي آثار نشر الخبر وتداعياته في حال الصحّة؟
ج- ما هي إيجابيّات وسلبيّات النشر أو الصمت؟ وأيّها الأولى والأهمّ؟
د- مَن هي الأطراف المتضرّرة إذا قمت بنقل الخبر؟
إنّ أكثر الأمثلة وضوحاً، هو عند تلقّي خبر شهادة صديق عبر قناة تواصل غير موثوقة، عندها تأكل الحيرة المتلقّي بين ضرورة إخبار ذويه وبين الصمت. والتصرّف الأنسب هو التريّث والصبر؛ لأنّ لهذه الأخبار جهاتٍ رسميّةً تتحمّل مسؤوليّة نقل الخبر بالكيفية المناسبة، وهي المصدر الذي يرتبط به الخبر... الذي قد يكون مجرّد شائعة.
فالقاعدة الأصوب إذاً، هي مراعاة أربع خطوات، ربما تكون الأصابع التي تفصل الحق عن الباطل: تمييز الخبر- إدارة التلقّي- نقد الخبر- ضبط ردّة الفعل المناسبة. والجدير بالذكر أنّ هذه العمليّة لا تنجح إلّا بمظلّة الصبر والتريّث، والتقوى في عدم شائعة الباطل قبل كلّ شيء.