الشيخ حسن أحمد الهادي(*)
ليس الإسلام منهج اعتقاد وإيمان وشعور في القلب فحسب، بل هو منهج حياة إنسانيّة واقعيّة، يتحوّل فيها الاعتقاد والإيمان إلى ممارسة عملية خارجية في جميع جوانب الحياة؛ لتقوم العلاقات على التراحم والتكافل والتناصح، فتكون الأمانة والسماحة والمودّة والإحسان والعدل هي القاعدة الأساسية التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية. وهذا ما يُلزم الأفراد بالكثير من الواجبات تجاه بعضهم بعضاً كأفراد وتجاه المجتمع ككيان اجتماعي يحتضن جميع أفراده.
*المسلم مسؤول في مجتمعه
فقد جعل الإسلام كلّ مسلم مسؤولاً في بيئته الاجتماعية، يمارس دوره الاجتماعي من موقعه، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاهتمام بأمور المسلمين ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم، فقال: "من أصبح لا يهتم بأُمور المسلمين فليس بمسلم"(1)، ودعا الإمام الصادق عليه السلام إلى الالتصاق والاندكاك بجماعة المسلمين فقال: "من فارق جماعة المسلمين قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"(2).
فالواضح من هذين الخبرين وغيرهما التأسيس لأصل اجتماعي هام يحكم العلاقات القائمة بين الناس مع بعضهم بعضاً، بما يشمل استفادتهم من كلّ النعم، والموارد المخصّصة للناس أجمعين بلا فرق بين مسلم وآخر، أو بين مجتمع وآخر.
*صور تساهل الناس بالأموال العامة
عندما نتأمّل في كيفية تعامل الناس مع الأموال العامة نجد أنّ العديد من أفراد المجتمع لا يراعون أنّ ما يحق لهم مقيّد بحدود ما حصلوا عليه وفق قاعدة مراعاة حقوق الآخرين، وعدم جواز التعدّي على حقوق وممتلكات الآخرين العامة أو الخاصة.
ولهذا، فإنّ الظواهر الغريبة عن قيمنا الإسلامية التي غزت مجتمعاتنا واقتحمت عقول الناس، وسيطرت على سلوكهم، لا يمكن تصنيفها إلّا في خانة الاعتداء على الآخرين، وسلب أموالهم وحقوقهم والإضرار بهم أو بالمصلحة العامة. ومن ذلك التعدّي على شبكات الكهرباء والماء والحصول على كمّيات كبيرة منها بغير وجه حق، أو استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة للاستفادة من شبكات الإنترنت ونحوها بالتسلّل واختراق وسائل الحماية المتعارفة أو احتكار ما اصطلح عليه في الفقه الإسلامي بالمشتركات للاستفادة الشخصية منها: كالطرقات والأرصفة ومواقف السيارات والحدائق العامة ونحوها.
*ظاهرة دخيلة، سبل المعالجة
إنّ معالجة مثل هذه الظواهر يجب أن تمرّ بمرحلتين:
الأولى: بيان أسباب الظاهرة والآثار السلبية التي تنتج عنها والتحذير من عواقبها.
الثانية: التوجيه التربوي الديني الجامع بين البُعدين القيمي والحقوقي.
المرحلة الأولى: بيان أسباب الظاهرة وآثارها:
لا تخلو أسباب الاعتداء على الأموال والممتلكات العامة والاستيلاء عليها من اللامبالاة والاستهتار، أو اتباع السلوك العدواني من العنف والتسلّط، أو التأثّر بسلوك الآخرين السلبي في التعامل مع الأموال العامة، حيث يستسهلها بعض الناس، ما يوقعهم في إشكالية سلب حقوق الآخرين وإيقاع الضرر المادي بالمجتمع ككل، مضافاً إلى خلق حالات التوتّر والمشاكل بين الناس من أصحاب الحقوق وغيرهم. وهم لا يعلمون أو يعلمون بأنّهم بهذا يخالفون كتاب الله تعالى حيث نهى الله تعالى عن الاعتداء على الآخرين أو غصب الأموال والممتلكات أو الاعتداء عليها، قال تعالى: ﴿ولا تَعتدُوا إنَّ اللهَ لا يُحبُّ المُعتَدينَ﴾ (البقرة: 190).
هذا بالإضافة إلى العديد من الآثار السلبية؛ حيث إن الاعتداء على الممتلكات العامة يؤدّي إلى إيقاع الضرر على الجميع ما يعني تعطيل مصالحهم وتضرّر متطلبات حياتهم، كما هو الحال في الاعتداء على شبكات الماء والكهرباء والطرقات والأرصفة.
المرحلة الثانية: التوجيه التربوي الديني:
أمام هكذا ظاهرة خطيرة بآثارها الفردية والاجتماعية، يجب الاهتمام بمجموعة التشريعات الاجتماعية والتربوية التي تساهم مراعاتها والتربية عليها القضاء على هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي وإزالة آثارها السلبية، حيث إنّ الإسلام أولى أهمية قصوى للتشريعات التي ترتبط بنظم العلاقات الاجتماعية، وحفظ الحقوق، وأداء الواجبات العامة والخاصة تجاه الآخرين، نذكر منها:
أ- الالتفات إلى التوازن بين حقوق الفرد والمجتمع: فبقدر ما أعطى الإسلام من أهميّة عظمى لبناء الفرد، أعطى ثقلاً كبيراً لبناء نظام اجتماعي متوازن، يحفظ لكلّ فرد حقّه دون الإخلال بحقوق الآخرين، ففي النظام الإسلامي تلتقي الفردية والجماعية على نحو تتكافأ فيه الحقوق والواجبات، وتتوزّع فيه الخيرات والتبعات بالقسطاس المستقيم. قال تعالى: ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 7-9). فالإسلام - وهو دين الفطرة - يراعي جانبَي الفطرة الإنسانية ذات الطبيعة المزدوجة: الفردية والجماعية في آن واحد، فلا يجور الفرد على حساب المجتمع، ولا يحيف على المجتمع من أجل الفرد. ويقرّر للفرد من الحقوق ما يكافئ واجباته، ويلبّي حاجاته، ويحفظ كرامته، ويصون إنسانيته.
ب- لا حرية مطلقة في الإسلام: لقد ولد الإنسان حراً، وهكذا أراده الله سبحانه وتعالى فقال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(الإنسان: 3). ولكنّ الحرية في الإسلام لا تعني الفوضى بقدر ما ترمي إليه من الالتزام والمسؤولية واحترام الآخر، وبقدر ما تبنى عليه من الانضباط. وترتبط الحرية بحقّ الاختيار، ومنحه حقّ توظيفها في خدمته إذا أحسن استخدام عقله، ولهذا كانت الإشارات القرآنية المتعدّدة إلى أولي الألباب، وأولي النهى وغيرهما تدعو إلى وجوب التفكّر والتأمل والتدبّر والتعقل والتبصر.
ج- الإسلام دين النظام: خلق الله عزّ وجلّ هذا الكون على أساس منظّم، فوضع كل شيء في موضعه وجعل له مهمّةً عليه أن يؤدّيها في هذه الدنيا. وأحبّ الله للإنسان أن يكون منظّماً في حياته الشخصيّة والعامة، وقد بيَّن طريق ذلك في رسالات السماء فأوصى الإسلام بنظم الأمور في مختلف جوانب الحياة الإنسانية بهدف الوصول إلى حياة أفضل وتحقيق امتثال التكليف الإلهي. ويتجلّى هذا الالتزام بالنظام، والانضباط بالتربية، والالتزام بتعاليم الدين الحنيف التي جاءت لتنظيم الحياة الإنسانية وتأمين السعادة للمجتمع البشري كله. وهو ما أشار إليه الإمام علي عليه السلام في وصيته حيث أوصى ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بقوله: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم"(3). حيث قرن التقوى - التي تعبّر عن أعلى مراتب الإيمان والالتزام العملي بأحكام الشريعة وقوانينها - بالتوصية بنظم الأمر.
د- الأمانة من أسمى القيم الإسلامية: الأمانة من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلاميّة والإنسانيّة والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. وقد أولاها علماء الأخلاق أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصية والمجتمع. وهي السبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيويّة والأخرويّة. في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية وتؤدّي إلى الفوضى والفقر والشقاء وبالتالي تخريب الأطر الإنسانية والحضارية في المجتمعات البشرية.
أما بالنسبة إلى الأموال العامة، المتعلّقة بالمجتمع، فقد ورد التشديد فيها كثيراً في النصوص الدينية. والحكمة في ذلك واضحة؛ وذلك لأنّ بعض الناس قد يتصوّر أنّ مثل هذه الأموال بما أنّها لا تقع في دائرة الممتلكات لشخص معيّن، بل هي ملك عموم الناس، فإنّهم أحرار في تصرفاتهم وتعاملهم بها. وبالتالي إذا تفشّت التصرّفات العشوائية والاعتداءات على الأموال العامة فإنّ نظم المجتمع سوف يتلاشى وينهار، فلا يرى مثل هذا المجتمع البشري وجه السعادة أبداً.
هـ- الالتفات إلى الحكم الشرعي للمسألة: من الواضح أنّ كل التصرّفات والاستفادات غير المنضبطة من المال العام المخصّص للاستفادة العامة تُعَدُّ مخالفةً للشريعة الإسلامية، وهذا ما يجعلها محرّمة ومخالفة للعديد من الأحكام الشرعية والقانونية الواضحة عند المسلمين وغيرهم. فقد أفتى الفقهاء المسلمون بوجوب الالتزام بمقرّرات نظام المجتمع، ولو كانت من دولة غير إسلامية، تجب مراعاتها على كل حال(4). فليس لأي أحد أن يضع في الشوارع والطرقات العامة ما يضر بالمارة ونحوهم، ولا بد من منع ذلك بأية وسيلة ممكنة ولو بتسجيل عقوبة مادية عليه لحفظ المصالح العامة، ولا ينبغي لأحد مخالفة النظام ولا سيما مع لزوم الإضرار بالجار(5).
ومن الواضح هنا أنّ المحافظة على أنظمة وقوانين مثل: شبكات الكهرباء والماء والهاتف العامة، وعلى نظام السير والبناء والضمان الصحي والبيئة، وغيرها مما له جنبة مصلحة، وفائدة اجتماعية عامة، من المصاديق التي تندرج تحت النظام العام الذي أوجب الفقهاء الالتزام به ومراعاته.
*حقوق عامة
إن حقوق الإنسان في الإسلام منحة إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمنّ بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قرّرها الله للإنسان. كما أنّ هذه الحقوق عامة لكل الأفراد دونما تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة.
لذا، لا يحق لإنسان أن ينتزع هذه الحقوق من غيره مهما كانت الظروف والأسباب، وإلا لخرج من مسؤولياته تجاه نفسه وتجاه الآخرين، وخالف صراحةً ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"(6).
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية، لبنان.
1.الكافي، الكليني، ج2، ص163.
2.م.ن، ج1، ص405.
3.نهج البلاغة، الكتاب 49.
4.أجوبة الاستفتاءات، الإمام الخامنئي دام ظله، ج2، ص324.
5.مجمع المسائل، السيد الخوئي قدس سره، ج1، ص399، م16.
6.ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص2837.