مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أصحاب الحسين: أهل البصائر

السيد صادق الموسوي

الموقف هو التعبير - سواء كان لفظاً أو فعلاً - عن تجلٍّ لقرارٍ صادرٍ عن مكنونات القلوب وثوابت العقول. إنه ظهورٌ حيّ لنتائج معركةٍ داخلية خاضها المقرّر بين جنود العقل والجهل أو هو تعبيرٌ عن ميولٍ ورغباتٍ محسومةٍ عند الإنسان.

*توافق العقل والقلب
إنّ أعظمَ القرارات لتظهر حين تفتح في الذهن المعارِف، فتُحرِّك العواطِف، لتقلب المخاوِف إلى مواقِف. هذا التدرّج - الذي أشار إليه السيِّد الشهيد الصدر قدس سره - هو السبيل الأقوَم لظهور المواقف الإنسانية السامية. فالعقائد والمعارف والرؤية النظرية السليمة تُحرّك مشاعر الإنسان وعواطفه باتجاه الحقائق، فيصبح العقل والقلب في خطٍ واحد، ما يُسبِّب قرارات ومواقف قد تظهر عملياً من خلال حركةٍ أو قولٍ ولفظٍ يقوم به صاحب الموقف عند التحديات.

لقد حكى لنا القرآن الكريم مواقف تحوّلت إلى عبارات خالدة، كموقف السحرة ومؤمن آل فرعون ومؤمن آل يس وهابيل وعموم الأنبياء والمرسلين. وذكَر لنا التاريخ مواقف عظيمة نطقَ بها السابقون إلى الإسلام. لكن، بين كلّ تلك المواقف، تبقى عناوين كربلاء ذات بريق خاص يتجلّى في كل زمان ومكان.
لو كان الإخلاص هو معيارَ المواقف المتفوقة لكانت كربلاء في الصدارة. ولو كانت الآثار العملية هي المقياس لكانت كربلاء في المقدِّمة. ولو كانت المواقف توزن بخلودها وبقائها لكانت كربلاء في الطليعة.

*مع الأصحاب تحوّل الموقف إلى حياة
لا تُظهِر لنا مواقف الأصحاب في كربلاء كيف تتحول الحياة إلى موقف فحسب، إنّما تعلّمنا كيف يستحيل الموقف إلى حياة، خاصةً حين نلتفت إلى جهة الصدور وظرفه، فهي صدرَت عن الصغار والشباب والعجائز وعن النساء والرجال وعن الأقارب والأصحاب، وعن الأحرار والعبيد، في وقتٍ عزّ فيه الرجال، وفي تحدٍّ أيسره حزّ الرؤوس وملاقاة الحتوف.

إنّ مواقف كربلاء الواصلة إلينا، رغم قلّتها، كانت مدوّية صدّاحة، أوضحت لنا كيف يكون الموقف متناسباً مع المناسبة ليظهر في أبهى تجلياته، ويكون له وقعٌ عميق في العقول والقلوب.
يمكن لنا إبراز أهم سمات ومميزات هذه المواقف في:

1 - الوعي: "أتؤمننا وابن رسول الله لا أمانَ له".

تظهر البصائر حين يمتزج الإحساس بالإدراك ويتحوَّل إلى انفعال، فتتحوّل الأفعال إلى أهداف ذات خلفيّات على مستوى الرسالة والقضيّة.
لقد كانت عظمة مواقف رساليّي كربلاء نابعة من أنها، إضافةً للعاطفة الجياشة الدافعة لاتخاذها، مرتكِزة على أصول نظريّة قطعيّة تعتبر أنّ الطاعة لوليّ الأمر وبذل الأرواح معه هما الطريق الوحيد لحفظ الإسلام والدين. لذلك رفضوا أيّ أمانٍ قد يحفظ حياتهم، وتعالوا على أي خوفٍ يمنعهم من مواصلة الطريق. نرى مَن وُصِف بأنّه نافذ البصيرة أبا الفضل العباس، يردّ على الشمر حين بلّغه الأمان له ولإخوته: لعنك الله أتؤمننا وابن رسول الله لا أمانَ له(1) ، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللُّعناء وأولاد اللُّعناء(2)؟

ويظهر لنا موقف زهير بن القين حيث هدّده الشمر ورماه بالسهم: أفبالموت تهدّدني؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم(3).

2 - الإخلاص والخلود: "ولأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقى الله".

في كثيرٍ من الأحيان قد يُصدر الإنسان مواقف بخلفية المصلحة الدنيويّة الآنية المحدودة، وفي بعض الأوقات تدخل فيها شوائب الرياء والأنا والرغبات والمطامع والمكاسب.

ما يُميّز رجال كربلاء أنهم صفوةُ الذين انطلقوا من مكة وغُربلوا أثناء الطريق، فلم يستقرّ منهم إلا المخلِصون. وحين اشتدّ البأس وأصبحت الحتوف ثمناً للموقف مُحّصوا فلم يبقَ إلا أصحاب المواقف الصادقة. وهذا ما نراه جليّاً من ذيل كلام عابس بن أبي شبيب الشاكري، الذي خاطب وليّه الحسين عليه السلام: "والله، أخبرُك بما أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم ولأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريدُ بذلك إلّا ما عند الله"(4). هذا النفي - في آخر الموقف - المتصل بالاستثناء، يُفصح عن نيّة قلبية عبّر عنها عابس نيابة عن كل الأصحاب.

إنّه الإخلاص لله، الممتزج بالإخلاص لوليّه الذي لا يُرضي المخلوق بسخط الخالق أو يبتاع حطاماً دنيوياً بالآخرة، أو يرغب عن الجنة بشيء، ما يجعل الخطاب خالداً مستمراً تتداوله الأجيال ويحمل في مضمونه عوامل بنائه، ويُستحضر على مستوى القضيّة لا الحادثة التاريخيّة، كموقف جون الذي ردّه الإمام الحسين عن الحرب، فخاطب الإمام عليه السلام: إنّ ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود، فتنفس عليّ بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيضّ وجهي(5).

3 - التفاني: "لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت".

مهما عظمت بلاغة الموقف، فإنّه قد يبقى قاصراً عن التعبير عن مكنونات القلوب. فحين نرى مواقف معبّرة عن نيّات صادقة، نتلمس بعضاً من حقائقها، وتساعدنا عدالة مُطلقيها للتيقّن من مضمونها.

من هنا، تظهر مواقف متفانية مع القضية وصاحب القضيّة، قَصُرت كلماتها عن حصْر ثمار مضمونها، خاصةً موقفَين عزيزَين، أحدهما موقف سعيد بن عبد الله الحنفي الذي صرّح: "ولو علمتُ أني أُقتل فيك ثم أحيا ثم أذرّى، يُفعلُ ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك"(6)، وكذا موقف زهير بن القين المتفاني: "والله لوددت أني قُتلت ثم نُشرت ثم قُتلت حتى أقتل كذلك ألف قتلة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك"(7).

4 - الحزم وعدم التردّد: "لقد بلوتهم، فما وجدتُ فيهم إلا الأشوس الأقعص".

قد تؤدّي الظروف الصعبة والرهبة من التداعيات بالإنسان إلى أن يتّخذ موقفاً مُبهماً ليحفظ نفسه ومصلحته، أو يتخذ موقفاً متردّداً ليتراجعَ عنه حين يصبح الوقوف على التل أجدى من خوض الغمار. في كربلاء، بعد تمحيص طليعة الإيمان، لا تجد إلا المواقف الواضحة الحاسمة الحازمة، التي لا تقبل التأويل ولا يشوبها التردّد. ففي بداية كربلاء، حيث جمع حبيب أصحابه وتوجّه نحو عقيلة الهاشميّين، خاطبها بصراحة القول: "هذه صوارم فتيانكم آلوا ألا يغمدوها إلا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسموا ألّا يركزوها إلا في صدور من يُفرّق ناديكم"(8). إنه قسمٌ من أهل الشيَم، لا يتحمّل التردّد، ولا يحتمل التخلّف.

كما أنّ الإمام الحسين عليه السلام وصف هؤلاء الثلّة، للسيدة زينب عليها السلام التي خشيت أن يترددوا لاحقاً، بقوله: "والله لقد بلوتهم، فما وجدتُ فيهم إلا الأشوس الأقعص يستأنسون بالمنية دوني استيناس الطفل إلى محالب أمه"(9).
حتى الذين ترددوا قبل الواقعة، فإنهم حسموا الموقف واجتثوا الريبة والشك والتردّد من صدورهم. هذا ما نراه في موقف الحرّ الذي صرّح عن التردّد والحسم بلغة القسم: "إني والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعت وحُرّقت"(10).

5 - ربط الموقف بالعمل:

إنّ من أعظم الطعون التي توجّه للمواقف، هي أن تكون المواقف نظريّة ليس لها تطبيق على أرض الواقع، أو أن تكون خطابات شعبية تُفتقد عند الامتحان. لقد أثبتت النخبة الكربلائية صدق مواقفها حيث حوّلتها إلى واقع في ميدان التّحدي، حيث تجلّت بأجمل صورها في بهاء انضمام الفعل إلى القول بنزف الدم وحزّ الرؤوس ودَوس الأجساد. من الملفت، نهايةً، أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يُرد أن يكون التجسيد العملي للمواقف بسبب كون أصحابها أسرى مواقفهم، فترك المجال للجميع أن يتراجعوا في سدول الليل.

إنها بعض السمات والمميّزات، وشيء من الأمثلة والمصاديق، سمعناها بعلم اليقين كمواقف في هذه الدنيا، وسنرى التجليات العظيمة لها حيث الموقف في دار الخلود.


1.الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص 89.
2.لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص 116.
3.تاريخ الطبري، الطبري، ج4، ص 324.
4.مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي، ص20.
5.لواعج الأشجان، م. س.، ص 149.
6.الإرشاد، م. س.، ج2، ص 92.
7.مقتل الحسين، م. س.، ص 115.
8.لجنة الحديث في معهد باقر العلوم، موسوعة كلمات الإمام الحسين، ص 494.
9.المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، السيد عبد الحسين شرف الدين، ص 231.
10.الإرشاد، م. س.، ص 99

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع