الشيخ كميل شحرور
تسمو النفس الإنسانيّة لتصل في رقيّها درجةً تكون فيها أعظم من الملائكة، وتدنو
لتصير أقلّ شأناً من الحيوانات.
فكلّما زكت هذه النفس وتجرّدت من الأنا، ارتقت، وكلّما صُقلت الأخلاق الحسنة
والعادات النبيلة، شمخت، وكلّما اقترنت بالإيمان وانعجنت بالتقى تألّقت، ويصير هذا
الإنسان مخلوقاً متفرّداً حتّى ينال رتبة أشرف المخلوقات قاطبةً.
* تجارةٌ رابحة
ويَبِين هذا الجوهر الفريد في لحظات الشدَّة والبلاء، وينكشف عمقه عندما يستجيب
لنداء الله، ليقدّم أغلى ما يملكه.
يبرز في هذا المقام أصحاب الإمام الحسين عليه السلام أنموذجاً فريداً في علوّ
مقامهم وانصهار أنفسهم في طاعة ربّهم وسيّدهم، حتّى يكتب التاريخ في صفحاته مواقفَ
مضيئةً لا زالت مشعلاً للمجاهدين والتّائقين لسلوك مَسلكهم.
فعندما يقول المعصوم عليه السلام: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا
خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عنّي خيراً"(1)،
فإنّ كلامه هذا خلّد هذه الثلّة الفريدة، الذين وصل بهم نقاء الذات وصفاء السريرة
ليقول المعصوم في حقّهم مقالةً تصنّفهم في خانة الأوفى والأخيَر. فما الذي وصل إليه
هؤلاء حتّى يكونوا الأفضل حصراً؟!
* إذْن الرحيل
إذا أردنا أن نكشف النِّقاب عن شخصيّاتهم وبعض صفاتهم، فلا بدّ أن نبدأ بمواقفهم
يوم كربلاء؛ لنرى جمال النفس عندما تُسكب في قالب العقيدة.
قال الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً أصحابه: "ألا وإنّي لأظنّ أنّه آخر يوم
لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام،
هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً"(2).
أذن الإمام الحسين عليه السلام لهذه الثلّة أن تركب الليل معلناً أنّه أذن لهم
بالرحيل، وأنّه اكتفى من وفائهم بثباتهم معه في هذه الليلة.
إنْ كنتم لحقتم بي خوفاً من العقاب وامتثالاً للتكليف فقد أسقطتُ عنكم هذا الحمل،
وأذنت لكم بالرحيل.
هنا تتجلّى تلك الأنفس ليبينَ معدنها، فتنبري معلنة للحسين عليه السلام حقيقة
ولائها المطلق.
وكان ردّهم دليلاً على حقيقة معرفتهم بزوال الدنيا وفنائها، وعشقهم المطلق لسيّدهم
الحسين عليه السلام، الذي هو باب الوصول إلى رضى ربّهم ومولاهم.
* موقف الأصحاب
لقد انبرى هؤلاء يتبارزون في ساحة الوفاء، ويعلنون للدنيا بأسرها تعلّقهم بسيّدهم
عليه السلام وثباتهم معه. وفي ما يلي نبذة من مواقفهم:
أ- موقف مسلم بن عوسجة:
"أنخلّي عنك ولمّا نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقّك؟! والله لو علمت أنّي أُقتل
ثمّ أحيا ثمّ أُحرق ثمّ أحيا ثمّ أُذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى
ألقى حِمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك؟! وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي
لا انقضاء لها أبداً"(3). كانت كلمات قلَّ نظيرها وعزّ مثيلها.
"الموت لا يخيفني"، فالناس يخافون من ميتة واحدة، بينما صرّح ابن عوسجة بقوله: "الموت
لا يخيفني" وأنا يا سيّدي أبا عبد الله لو أموت سبعين مرّة في حبّك وأُحرق سبعين
مرّة في ولائك ما تركتك.
ب- موقف زهير بن القين:
موقفٌ آخر لزهير الذي صاحبه في الثبات والشدّة حينما قال: "لوددت أنّي قُتلت ثمّ
نُشرت ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ الله تعالى يدفع بذلك القتل عن
نفسك"(4).
ج- موقف بشير الحضرميّ:
قيل للحضرميّ وهو مع الحسين عليه السلام، إنّ ابنه قد أُسر فقال: "عند الله أحتسبه
ونفسي، ما كنت أحبّ أن يُؤسر ولا أن أبقى بعده". فسمع الحسين عليه السلام مقالته
فقال له عليه السلام : "رحمك الله أنت في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ابنك. فقال:
أكلتني السباع حيّاً إنْ فارقتك"(5).
وهنا يدعو الحضرميّ على نفسه بأن يكون فريسةً للسباع، إن اختار أن يترك الإمام
الحسين عليه السلام مهما كان السبب، ولو كان أسر ابنه، فلن يثنيه شيء عن نصرة إمامه.
إنّه الثبات في أجمل مراتبه والولاء في أبهى صوره.
* كانوا الأبرّ والأوفى
كان هؤلاء الأصحاب يمتلكون صفات وخصائص، جعلتهم يقفون تلك المواقف الجليلة وأهمّها:
1- الوعي: إنّ هذا العنصر لا بدّ من توفّره ليكون الطريق صحيحاً، لأنّه قد
يملك شخص الإرادة نحو الموت ولكنه لا يملك الوعي ليعرف هل هو في طريق الحقّ؟ هل هو
على الصراط المستقيم؟
إنّ الوعي الذي ينبغي أن يتوفّر هو الطاعة لوليّ الأمر على أنّها طاعة مستمدّة من
طاعة رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم وطاعة الله عزّ وجلّ.
2- الإرادة: امتلكوا الإرادة، فالوعي وحده لا يكفي، لأنّ الوعي دون محرّكية
نحو الهدف هو خسران. فهؤلاء أهل الكوفة كانوا يعلمون أنّ الحسين هو ابن عليّ وابن
فاطمة عليهما السلام، وأنه ليس على وجه الأرض من ابن بنت نبيّ غيره، وأنّه الإمام
الوليّ مفترض الطاعة، ولكنهم لا يملكون الإرادة! فهؤلاء تخلّوا عن مولاهم في ساعة
الحاجة.
3- الإخلاص: إنّ الإخلاص الحقيقيّ هو أن يريد العبد وجه الله، وأن لا يريد
غنيمة ولا مَغنماً، ولا شهرة ولا منصباً، ما يذكر بموقف عابس الشاكريّ حينما قال:
"... ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا أريد بذلك إلّا ما عند الله"(6).
إنّ هذا هو الإخلاص المطلق، لأنّه يكون نابعاً أساساً من معرفة العبد بمقام ربّه.
إنّ الإنسان الذي يتدرّج في مدارج الكمال ويجعل العبادة أساساً متيناً في بناء نفسه
وذاته، سوف يرقى ليصل إلى درجة الفناء بالله عزّ وجلّ.
وكلّما زاد العبد من عبادته، ازداد تحرّراً من نفسه الأمّارة بالسوء، إلى أن يصل
يوماً إلى التحرّر الكامل من كلّ القيود التي تمنعه من نيل مقام رضى الله.
هؤلاء الفتية تدرّجوا حتّى وصلوا إلى هذه الدرجات فكانوا أحراراً، ليس لهم مبتغى
ولا أمل ولا رجاء إلّا الوصول إلى رضى الله عزّ وجلّ.
4- التفاني: أن يصل المرء إلى التفاني في الوصول إلى مَرامه وهدفه هو أعلى
درجات الفداء.
نلاحظ أنّ أصحاب الحسين عليه السلام لم يكونوا مجاهدين مخلصين واعين فحسب، بل كانوا
متفانين في طاعة سيّدهم التي هي طاعة الله عزّ وجلّ.
نلاحظ من كلماتهم (رضوان الله عليهم): (70 مرّة) (ألف مرّة)، أنّهم يودّون لو
استطاعوا أن يقدّموا أنفسهم أكثر من مرّة.
إنّها قمّة التفاني والتواصي في خدمة سيّدهم والذود عنه والشهادة دونه.
في الختام، هذه الثلّة الطاهرة أخرجت الإيمان من القول إلى العمل وجسَّدته فعلاً
وواقعاً وليس كلاماً وتنظيراً، فالسلام عليكم يوم وُلدتم ويوم استشهدتم ويوم
تُبعثون أحياء.
1.الإرشاد، المفيد، ج2، ص93.
2.(م.ن).
3.(م.ن)، ص91.
4.(م.ن).
5.اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص57.
6.تاريخ الطبري، ج4، ص264.