الجريح المجاهد حسن مصطفى وهبي (أبو يعقوب)
حنان الموسوي
كنّا في مكان قرب الموت. دائماً ما يكون الحضور في مراكز التماس حماسيّاً؛ نقاؤه أبيض، حتّى هواؤه يختلف. أردت الانتقال ومن معي من زاويةٍ إلى أخرى من الشارع في مهمّة، وفي لحظةٍ غفا عنها الوجود، حضر الإمام الحسين عليه السلام بكلّ جلاله في وجداني، عجبت لصفاء نيّتي لبرهة، وما إن لامست قدماي الطريق، تحسّست وجه السماء مرفرفاً بدمي. لون الرمّان كان شهيّاً جدّاً في حضرة القنّاص الذي اختار عنقي فريسة لطلقته.. وفعلاً عبرت!
•عندما تملّكني الشلل
هرع إليّ كلّ من كان في المكان، ونقلت بالإسعاف إلى مشفى الجامعة الأميركيّة. مكثتُ هناك مدّة شهر، بعدها انتقلت إلى مشفى الشرق الأوسط وبقيت فيه ثلاثة أشهر، ومنها نُقلت إلى مشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مدّة أربعة عشر يوماً.
ذلك الخَدَر الذي صعق أعضائي أصابني بشللٍ رباعيّ، لم يترك لي أنا ابن الاثنين وعشرين ربيعاً شيئاً ينبض غير قلبي، أمّا عن عقلي فالحديث يطول.
كانت الصدمة ما بعد الإصابة كبيرة، وجب عليّ أن أمتصّها، وأن أُفهم كلّ عضوٍ من أعضاء جسدي الهزيل حالته الجديدة.
•فطرة طيّبة
بين شهادة أخي الأصغر المفقود الأثر، وإصابتي أشهر بسيطة. ووسط الحيرة التي تنهش أمّي، نزل خبر إصابتي على قلبها ليحتزّه ألماً. إحساسها الصادق زاد الحرقة في نفسها. دعت الله وتضرّعت إليه أن تكون إصابتي طفيفة، لكنّ الله اختار لها واقعاً يحدوه الأجر العظيم.
حدّثتها بكلمات فيها من التسليم ما يسكّن الروح: "عزيزة القلب، إن لم تكن الإصابة في طاعة، لكانت حتماً في معصية، قضاء الله مبرمٌ لا يتغيّر، جزعتِ أم لم تجزعي فقد وقع البلاء".
فطرتها الطيّبة تقبّلت مصابي بلذّة، وهبتني الحنان بصمت. مرّت تسع سنوات جنّدت أمّي نفسها لخدمتي خلالها، ما مرّ على قلبي أسعد منها في حياتي بعد الإصابة.
•دفء العائلة
ولدت في منطقة الشيّاح، داخل منزل متواضع الإمكانات، عظيم الحسّ. عشنا حياة كانت مزيجاً من لعب ودراسة. مرّت السنوات سريعاً وحصلت على شهادة البكالوريا القسم الثاني.
أمّي طاقة من حنان متوهّج، جلُّ همّها نحن، ركعات صلاتها كثيرة، فكلّ نظرة من عينيها نحونا كانت ترتيلاً ودعاء. أمّا والدي فقد كان عاملاً بسيطاً، لكنّه رجلٌ بما تحمله الرجولة من واسع معانيها، طيّب المعشر، فكاهيّ، يحبّ الناس.
•الرعيل الأوّل
فطرة الجهاد كانت راسخة في نفوسنا. الحروف التي تنسكب من القلب لها أجمل الأثر، فكيف بالأفعال الطيّبة؟! كان أخي الشيخ مالك قدوتي في الحياة. عقيدته الناصعة انتقت تصرّفاته، والله سدّدها. شارك في المظاهرات الداعمة للثورة الإسلاميّة في إيران إلى أن انتصرت، بعدها سافر إلى إيران لطلب العلوم الدينيّة. كان أثره عجيباً في نفسي. شاركت معه في المظاهرات، بعدها انضممت إلى جمعيّة "الاتّحاد اللبنانيّ للطلبة المسلمين"، ذات التوجّه الدينيّ الثقافيّ، وعملت ضمن هيئتها الإداريّة مدّة سنة ونصف.
طُرح عليّ في وقتٍ لاحق الانضمام إلى أحد المحاور، في مركز جديد أنشأته مجموعة من المؤمنين مع بعض المراكز لتدريب الشبّان على استخدام السلاح وعلى القتال، كمركز الشيّاح ومركز حيّ ماضي، فالتحقت به سريعاً.
عام 1984م، أُعلن عن قيام حزب الله ونُشرت رسالته، حينها كنت أدرس السنة الثانية في اختصاص هندسة الاتّصالات في الجامعة العربيّة، ودرست اللغة الإنكليزيّة في جامعة الـ lAU التي اشتُهرت قديماً باسم BUC. بعد أن التحقت بحزب الله، عملت باختصاصي في غرفة الإشارة لأحد المراكز، وهي نقطة التواصل بين مراكز عدّة تابعة للحزب، كان ذلك قبل إصابتي بوقت قليل.
•عائلتي.. هبة إلهيّة
في سنّ الثلاثين، اخترت زوجة هي نِعم الزوجة، كانت السند بعد الله واليد التي سُلِبتها، كانت "أنا" في جسدٍ كرّس كلّ طاقته لخدمتي، ورُزقت منها بأطفال أربعة، هم زينة الحياة الدنيا. تحمّلت وحدها مشقّة العناية بهم، وتقبَّلت ذلك برضى وفرح، فكانت الهبة الأغلى التي وهبنيها الله.
كلّ أمنياتي حقّقها أبنائي، أنجح بنجاحهم وأحيا بتفوّقهم. نظرة الفخر التي أراها في عيون أولادي تدفعني كي أكون على مرّ الزمن تاريخاً. في نهاية المطاف سأحتوي مخزوناً معرفيّاً وثقافيّاً، وكلّ الغايةِ أن أخدمهم بهذه المعارف بإخلاص؛ لتكون درساً جوهره أنّ الإصابة تعيق الجسد ولا تعيق الروح، وأنّ العزيمة لا يوقفها جرح.
•تهديدٌ وفرصة
التهديد هو سلب شيءٍ منّا في هذه الدنيا، والفرصة هي استثمار التهديد وتحويله إلى متعة، خاصّة إن ابتكرت بذكائك فرصاً متعدّدة. كما أنّ احتضان المقاومة وحزب الله لي بعد الإصابة، فضلاً عن المواساة والخدمات التي أتيحت لي، أغنتني عن كلّ من في الوجود. وأمّا عن الصبر، فله مواطن عدّة، إمّا أن يتجرّع الإنسان ألمه برضى، أو أن يتجرّعه بأسى، فإن رضي هان عليه مصابه، واتّسعت رحمة الله في فؤاده، ورأى مَن حوله يركضون متخبّطين، فيما هو تغشاه السكينة. فأعضائي التي فارقَتها الحياة لازمتني، احتضنتها بكلِّ ما أوتيت من عزم، كانت أنانيّة بدورها، ما ساعدتني يوماً لاحتضان ابن أو ابنة، وحرمتني الشعور بالاستقلاليّة، لكن تبقى الغصّة في القلب على شكل جرعاتٍ من الصبر.
•الأمل الواعد
سبب الكآبة عدم إطلاق الروح، فالإنسان روحٌ وجسد، وعلاقة الإنسان بربّه قناتها الروح، يترجمها بالتفكّر، والمناجاة، والدعاء، ولبّها الحضور القلبيّ في حضرة الله العظيم، فالثرثرة ولقلقة اللسان لا وزن لهما في ميزان الله. لذا حين أقول بسم الله الرحمن الرحيم وأنوي زيارة الله في عرشه عند الصلاة، أستحضر في وجداني أنّ الله هو جبّار السماوات والأرض، هو العظيم، خالق الخلق، وأنا في محضره كلّ حين. هذا الحضور يثبت أن لا يأس مع قدرة الله، حين ترنو إليه بنظرة يأتيك بكلّه، والدليل أنه منَّ عليَّ من جديد بأملٍ واعد.
قضيت تلك المدّة في القراءة. كلّ كتاب وقع نظري عليه هو بمثابة وليمة شهيّة. الكتب التي قرأتها أزهار استمتعت بعبيرها؛ لذا اخترت من كلّ بستان زهرة: النحو، العقائد، السيرة، الأدب.. كليلة ودمنة، الأخلاق.. الأربعون حديثاً، الفلسفة.. بداية الحكمة، إنّ مع الصبر نصراً، الكشكول، البؤساء وغيرها الكثير.. إنّي أتابع دراستي الجامعيّة باختصاص الفلسفة، كما أنّني ناشطٌ عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، يعود الفضل في ذلك إلى المعالجة الانشغاليّة في مؤسسة الجرحى، التي كانت مفصلاً محوريّاً في حياتي، وقد أهدتني (فأرة ذكيّة) أحرّكها بذقني، فبتّ استخدم الحاسوب بسهولة أكبر، ونسيت العجز الذي يلبسني، لدرجة أنّ من يحدّثني من وراء الشاشة يستحيل أن يعيَ حالتي.
•موقف لا يُنسى
بعد أن يستكين الجرح من موقفٍ ما، يصبح الوقت ثقيلاً لبلسمته، تكوي ثوانيه القلب حين تمرّ الذكرى. حين حازت ابنتي شهادة البروفيه، وفي حفل تخرّجها، كنت سبباً لبكائها على منصّة التخرّج، وقفت وعلى عينَيها جدار مالح المذاق حين لم تجدني بين الحضور، زيارتي للطبيب اضطرّتني إلى المغادرة، رافقتني غصّة قلبها ثلاثة أعوامٍ، إلى أن حازت الشهادة الثانويّة، اختصرت الحديث في زحمة الفخر والشوق، وعلى أعتاب نجاحها لمعت أعيننا فرحاً، أسعدها حضوري، وأسعدني نجاحها!
•رسالة رجاء
نسأل الله أن يحفظ هذه المسيرة، وأن يحمي قائدها سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، من لقّبني بـ"عميد الجرحى". هذه المسيرة تعتزّ بشهدائها وجرحاها، فالجرح كحالة البرزخ بين الدنيا والآخرة، والجريح هو الشاهد على ما مضى، والشاهد على من بقي، هو الاستمراريّة بين المجاهد الشهيد وبين المجاهدين الأحياء.
لا أنسى اهتمام سماحته بي، وقد تبرّكتُ بخاتمه وسجّادة صلاته الخاصّة وسجدته وسبحته. أقول له: إن منَّ الله عليَّ بالوقوف مجدّداً، وأفاض على أعضائي القدرة، أوّل ما سأقوم به هو صلاة ركعتين شكراً لله، وسأعود إلى مراكز الجهاد لأكون جنديّاً بين جنودك.
اسم الجريح: حسن مصطفى وهبي.
الاسم الجهادي: أبو يعقوب.
تاريخ الولادة: 5/1/1966م.
تاريخ الإصابة: 9/6/1988م.
نوع الإصابة: شلل رباعيّ إثر طلقة قنّاص في العنق.