الشيخ أبو صالح عبّاس
للوصيّة في وجدان الأُمم والأفراد أهميّة شديدة. وتشتدّ هذه الأهميّة حينما تصدر عن أصحاب المقامات المعنويّة الذين يمتازون بالمناقبيّة والخبرة والحرص على مصلحة شعوبهم ومريديهم.
ونظراً إلى أهميّة الوصيّة التي قد تُستمدّ من الموصي وبصيرته، سنتناول وصيّة الشهيد قاسم سليماني في سلسلة من المقالات، نطلّ على مفاصلها، وعلى توجيهاته وأولويّاته... فيما تحمل بين طيّاتها عبق الشهادة.
•أهميّة الوصيّة في الإسلام
أَوْلى الإسلام للوصيّة أهميّة كبرى، أظهرها في كتابه العزيز في العديد من المجالات، كقوله تعالى في الجانب الاجتماعيّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (العنكبوت: 8) وفي الجانب العقائديّ: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132)، وفي الجانب التشريعيّ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153)، وغيرها من الجوانب الأخرى.
•وصايا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة عليهم السلام
وقد استعان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام بالوصيّة لحفظ تعاليمهم وتوجيهاتهم للمؤمنين وللناس أجمعين، كوصايا النبيّ للإمام عليّ عليه السلام وبعض أصحابه، ووصايا الإمام عليّ عليه السلام لولديه الحسنَين عليهما السلام وللمؤمنين وغيرهم، ووصايا الأئمّة عليهم السلام لأصحابهم ولعموم الناس كذلك. ومن هذه الوصايا على سبيل المثال، ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أنّه أوصى عليّاً عليه السلام فقال: "يَا عَلِيُّ، أُوصِيكَ في نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظْها عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْه، أمَّا الأُولى فَالصِّدْقُ..."(1)، وما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في إحدى وصاياه: "أوصيكم بتقوى الله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه..."(2)، وهي تُعدّ بعد القرآن أعظم الوصايا الواردة إلينا.
ويليها من حيث الأهميّة وصايا المقدّسين من أُولي العلم والحكمة، كوصايا العلماء والعرفاء والشهداء الأبرار، ولعلّ أبرزها على المستوى السياسيّ الوصيّة السياسيّة الخالدة للإمام الخمينيّ الراحل قدس سره، وهذه الوصايا تُعدّ بحقّ معالم حضاريّة وشواهد حيّة لا يمحوها الزمن.
•وصيّة استثنائيّة للأمّة
في أواخر سنة 2019م، استفاقت الدنيا على حدثٍ عظيمٍ تمثَّل باغتيال الحاج قاسم سليماني، والحاج أبو مهدي المهندس ورفاقهما، فظهرت إلى الوجود وصيّة استثنائيّة تحمل في طيّاتها عبق الشهداء، وزفرات العاشقين، وأصدق الكلمات الولائيّة المتوهّجة بنور الإخلاص والاستقامة.
إنّها وصيّة الحاج قاسم؛ الشخصيّة الشامخة، التي ارتقت إلى بارئها بعد أربعين سنة من الجهاد بأبهى صور المواساة للإمام الحسين عليه السلام، وعرجت ببهاءٍ ملكوتيّ عبَّرت عنه الحشود المليونيّة التي ملأت الساحات والطرقات في إيران وخارجها. الشخصيّة التي أبكت الملايين، وأجرت دموع الوليّ الفقيه، وخيرة القادة والأبرار، حتّى ليخال المرء أنّ الذي رحل هو مفقود العالمين، فلم ينظر إليه أحد من الناس إلّا ورآه عزيزاً له، ورأته الأمُّ ولداً لها، ورأته الثكلى الكفيل والمعين، ورآه اليتيم أباً له، ووجده الأخ أخاً له، وهكذا.
إنّها وصيّة الحاج قاسم، الذي عاش في الدنيا كأمَّة ورحل عنها كأمَّة، بصحيفة تختزن الكثير من العطاءات والإنجازات، بعد أن زرع الكثير من أغراس العزّ والإباء لأعراس المستقبل الموعود، حيث انبلاج العدل لكلّ المستضعفين والمظلومين في العالم.
•خرّيج مدرسة الإمام الخميني قدس سره
كثيراً ما أثنى الإمام القائد السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله على الحاج قاسم سليماني في حياته. وبعد شهادته نعاه بكلماتٍ عظيمة لم يقلها في أحد قبله، استهلَّها بقوله: "ها قد حلَّق لواء الإسلام العظيم وشامخ القامة إلى السماوات"، ثمّ قال بعد ذلك: "... لقد كان نموذجاً بارزاً للناهلين من فيض الإسلام ومدرسة الإمام الخمينيّ قدس سره..."، ثمّ ذكر له عند لقائه أهل قمّ بتاريخ 18/1/2020م، مواصفات راقية اختصرها بعناوين كبيرة مثل: التدبير، والشجاعة، والإقدام، والمنطق، والفعاليّة، ورعاية الضوابط الشرعيّة، وغيرها من مواصفات قلّما اجتمعت في فردٍ واحد.
•أهميّة وصيّة سليماني
في ما تقدّم، تظهر أهميّة هذه الوصيّة، أضف إلى ذلك العناصر الآتية:
1- إنّ كاتب الوصيّة إنسان مخلص، قائد حكيم، عارف جهاديّ، يتّصف بأجمل المشاعر الإنسانيّة بقلبه العطوف، وعشقه لبارئه المتعال، ما يجعل وصيّته مفعمة بالمعارف والتجارب والمفاهيم التربويّة الراقية ببُعدها العمليّ والسلوكيّ.
2- إنّها تعكس الجانب العمليّ لخطّ الإمام الخمينيّ قدس سره، وتختصر الانتماء الخالص إلى مدرسة الولاية طيلة حياته الشريفة، فهو "أشتر" القائد الخامنئيّ دام ظله وحبيبه، وسيف الإسلام القاطع في مواجهة الأعداء.
3- إنّها تركة قائد عظيم كُتبت بحبر الجهاد والعطاء اللامحدود، وخُتمت بختم الشهادة القاني.
•موضوعات الوصيّة
1- "لقد جئتك من دون زاد": تمتاز وصيّة الحاج قاسم بعبق توحيديّ وعشقيّ خالص، كما تشتمل على معارف ودروس قيّمة في الشكر والتوحيد، والشعور بالخجل والتقصير، وهي حالة الواصلين، حيث إنّهم كلّما اقتربوا من الحقّ اشتدّ شعورهم بالفقر وقلّة الزاد، وهو بذلك يحذو حذو أئمّته عليهم السلام وأوليائه، حين يقف مطأطئ الرأس في محضر الحقّ، بيدَين مرتجفتَين وقدمَين مترنّحتَين، وتواضع يذوب في العجز والعبوديّة، ويخاطب ربّه قائلاً: "يا الله الحبيب، والخالق، الحكيم، الواحد الأحد! أنا خالي الوفاض وحقيبة سفري فارغة، لقد جئتك من دون زاد، وكلّي أمل أن ترزقني عفوك وكرمك...".
2- "أحمدك أن نقلتني من صلبٍ إلى صلب...": كما تفيض الوصيّة بآيات المودّة للعترة الطاهرة عليهم السلام، وتعرب عن أعذب أحاسيس الإقرار بعظمة الوليّ الفقيه ومظلوميّته، كقوله: "إلهي! أحمدك أنْ نقلتني من صلبٍ إلى صلب، ومن قرنٍ إلى قرن، وخلقتني ومنحتني الوجود في زمن تمكّنتُ فيه من إدراك [معرفة] أحد أبرز أوليائك المقرّبين والمقترنين بأوليائك المعصومين، عبدك الصّالح الخمينيّ الكبير العظيم، لأصبح جنديّاً في ركابه. إنْ لم أوفّق لصحبة رسولك الأعظم محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن لي نصيبٌ من إدراك زمن مظلوميّة عليّ بن أبي طالب وأبنائه المعصومين والمظلومين عليهم السلام [والدفاع عنهم]، فقد جعلتني في المسار نفسه، الذي لأجله بذلوا أرواحهم التي هي روح العالم والخلقة (الخلق)".
3- "لم أستطع نسيانهم أبداً": وتتضمّن الوصيّة أيضاً أرقى عبارات الوفاء للشهداء، والشوق إلى الالتحاق بركبهم، وأصدق معاني التقدير لمقامات المجاهدين الشامخة كقوله: "إلهي، لك الشكر على أن جمعتني بأفضل عبادك، وتكرّمتَ عليّ بتقبيل وجوههم الجنائنيّة (وجوههم السماويّة) واستنشاق عطرهم الإلهيّ، ألا وإنّهم المجاهدون والمستشهدون في هذا السبيل"، وقوله بعد ذلك: "إلهي! أيّها الحبيب! لقد تخلّفتُ لسنوات عن القافلة، وقد كنتُ دوماً أدفع الآخرين إليها،... وأنتَ تعلم أنّي لم أستطع أبداً نسيانهم، فذكراهم وأسماؤهم تتجلّى دائماً ليس في ذهني وحده، بل لوعةً ودموعاً في قلبي وفي عينيّ".
4- خيمة الإسلام: وتشتمل الوصيّة على الكثير من بوارق البصيرة ورسوخ الإيمان بمحوريّة ولاية الفقيه في زمن الغيبة الكبرى، "خيمة الاسلام" كما يسمّيها الحاج قاسم، وتستصرخ وجدان الأمّة للالتفاف حولها، والتمسّك بالإسلام المحمّديّ الأصيل الذي جسَّده الإمام الخمينيّ العظيم قدس سره بقيامه وثورته ونهوضه لتثبيت حاكميّة الإسلام ورفعة المسلمين.
•على العهد والوفاء
هذه الموضوعات وغيرها سيتمّ تناولها بالعرض والتحليل إن شاء الله تعالى في سلسلة مقالات بعنوان: "الوصيّة الخالدة لجندي الإسلام العظيم الشهيد الحاج قاسم سليماني".
وذلك تعبيراً عن الوفاء لنهج "أشتر" الولاية، واغتناماً لفرصة الاغتراف من معين الجهاد في بُعدَيه العشقيّ والعمليّ، والذي جسّده الحاج قاسم في حياته مجاهداً وقائداً وعابداً وسياسيّاً، قبل أن تشرق روحه فيما بعد بنور الشهادة التي أحيت ثورة الإسلام كما وصفها الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله، الشهادة التي وقعت لله فاستحالت حياة خالدة ونبراس أمل للمستضعفين في الحاضر والمستقبل.
1.الكافي، الكليني، ج8، ص79.
2.مستدرك الوسائل، النوري الطبرسي، ج1، ص116.