مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من القلب إلى كلّ القلوب: خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان (2)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
 

بعد أن استقبلنا شهر الرحمة في العدد الماضي، وحظينا بالتعرّف إلى توصيات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخالدة، نتابع في هذه المقالة توصياته الباقية، علّنا نوفَّق وإيّاكم إلى تطبيق ما أوصانا به خير البريّة عملاً وفكراً.

•من توصيات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان
ـ "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنْفُسَكُمْ مَرْهُونَةٌ بِأَعْمَالِكُمْ، فَفُكُّوهَا بِاسْتِغْفَارِكُمْ"؛ الإيمان الحقيقيّ هو إيمان القلب والعمل الصالح معاً، وأنفسنا مرهونة بأعمالنا؛ فإذا كانت أعمالنا صالحة، فنتيجتها صلاحٌ وفلاح، وإذا كانت أعمالنا سيّئة، فنتيجتها -والعياذ بالله- معروفة.

إذاً، أنفسكم مرهونة بأعمالكم، والذي ينقذكم من هذا الرهن هو الاستغفار، ففكّوها باستغفاركم. فشهر رمضان هو شهر الاستغفار، لذلك يُستحبّ الإكثار من قول: (أستغفر الله ربّي وأتوب إليه) أو (أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه)، ويوجد العديد من صيغ الاستغفار.

ـ "وَظُهُورَكُمْ ثَقِيلَةٌ مِنْ أَوْزَارِكُمْ، فَخَفِّفُوا عَنْهَا بِطُولِ سُجُودِكُمْ"؛ إنّ إطالة السجود في أيّام شهر رمضان ولياليه، تخفّف عنّا ما نحمله على ظهورنا من خطايا وذنوب، فنتوب إليه، ونستغفره، وندعوه في حال السجود.

ـ "وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ الْمُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَنْ لا يُرَوِّعَهُمْ بِالنَّارِ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"؛ هذا وعد من الله سبحانه، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول إنّ الله أقسم بعزّته أنّ هؤلاء المصلّين والساجدين والذين يذكرون الله في سجودهم، لن يعذّبهم في النار، ولن يخيفهم.

ـ "أيّها الناس! مَنْ فَطَّرَ مِنْكُمْ صَائِماً مُؤْمِناً فِي هَذَا الشَّهْرِ، كَانَ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ، وَمَغْفِرَةٌ لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ"؛ هذا من أجمل العروض السهلة في شهر رمضان المبارك، أن تأتي بمؤمن صائم وتقدّم له طعام الإفطار؛ وبما أنّ زماننا لا يوجد فيه عبيد، فإنّ ثواب هذا العمل كمن عتق رقبة عبد، وهو ثواب عظيم، وله-كذلك- المغفرة لما مضى من الذنوب.

"قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَيْسَ كُلُّنَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ"؛ في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يوجد فقر شديد ومدقع، بعض الناس كانوا لا يملكون حتّى قوت يومهم، وليس شهرهم أو سنتهم.

ـ "فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ"؛ واقعاً، إنّ الإنسان الفقير الذي لا يستطيع أن يُفطّر مؤمناً صائماً إلّا بشربة ماء أو بشقّ تمرة، إذا فعل ذلك، فالله سبحانه وتعالى يعطيه أجر عتق رقبة، ويغفر له ما مضى من ذنوبه.

ـ "أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ حَسَّنَ مِنْكُمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقْدَامُ"؛ لماذا التأكيد هنا على حُسن الخُلق؟ لأنّه بسبب الجوع، والعطش، والسهر، والتعب، والعمل، والدرس، والاستيقاظ باكراً..، الإنسان بحاجة إلى جهد إضافيّ كي يكون طويل البال، وصبوراً، ومبتسماً، وكلامه جميلاً، ومتحمّلاً لإزعاج الآخرين، لذلك التوصية أشدّ على حُسن الخُلق؛ لأنّه وحده في شهر رمضان يعطينا جوازاً للعبور على الصراط يوم تزلّ الأقدام. وكما تعلمون، إنّ الصراط يمرّ فوق النار، وعلى الجميع عبوره إلى الجنّة، فهناك من تزلّ قدمه فيقع في نار جهنّم، والإنسان الذي يكون خُلقه حسناً مع عائلته، وجيرانه، وأولاده، وأرحامه، ومن حوله كلّهم، أجره عند الله أجر الصائم القائم خلال السنة كلّها.

ـ "وَمَنْ خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، خَفَّفَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ"؛ لا يوجد عبيد في زمننا، لكن يمكن أن نوسّع الفكرة لنقول فمن لديه خدم، أو موظّفون، أو من تحت إمرته، فمن الحسن التخفيف عنهم في هذا الشهر.

ـ "وَمَنْ كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ"؛ نحن بحاجة إلى جهاد نفس أكبر، وضبط نفس أعلى، وسيطرة على الغضب أكبر، من أيّ وقت مضى. هذه الخصوصيّة في شهر رمضان تعطي هذه النتيجة يوم القيامة.

ـ "وَمَنْ أَكْرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكْرَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ"؛ المقصود أكثر من إطعام أو تكفُّل يتيم، بل أن تكرمه بأيّ عنوان من عناوين الإكرام، فالله سبحانه وتعالى يُكرمك يوم يلقاك.

ـ "وَمَنْ وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ"؛ في مناسبات الإفطار ترى فلاناً يحمل مفكّرته ليسجّل عليها الإفطارات المدعوّ عليها عند فلان وفلان، في الوقت الذي يجب أن يبقى فيه الإنسان عند عائلته، وأقاربه، وأرحامه، فهو بالدرجة الأولى شهر صلة الرحم، بمعنى أن تزور العائلات بعضها بعضاً، وتتواصل، وتلتقي، وفي الحدّ الأدنى بالاتصال أو الكلام.

ـ "وَمَنْ قَطَعَ فِيهِ رَحِمَهُ قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْمَتَهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ"؛ يعني لو صلّى وصام وقام الليل، وتصدّق.. وقطع رحمه، فالله سيقطع عنه رحمته يوم يلقاه. وهذا موضوع خطر جدّاً.

ـ "وَمَنْ تَطَوَّعَ فِيهِ بِصَلاةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ"؛ أي الصلوات المستحبّة، وأفضلها النوافل اليوميّة: النهاريّة والليليّة، وأفضلها النوافل الليليّة، وتحديداً صلاة الليل، في الحدّ الأدنى، وفي حال لم تسمح الظروف للبعض القيام بها على مدار السنة، بالإمكان استغلال الفرصة في هذا الشهر المبارك ليربحوا عظيم الأجر فيه. وعلى الرغم من أنّ الصلاة واجبة في شهر رمضان أو غيره، لكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرْضاً كَانَ لَهُ ثَوَابُ مَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الشُّهُورِ"؛ أي أجر كلّ فريضة مضاعف سبعين مرّة، وهذا من كرم الله سبحانه وتعالى.

ـ "وَمَنْ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ ثَقَّلَ اللَّهُ مِيزَانَهُ يَوْمَ تَخِفُّ الْمَوَازِينُ وَمَنْ تَلا فِيهِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ"؛ الصلاة على محمّد وآل محمّد يمكن أن تكون بالسبحة، أو دونها، وليس بالضرورة أن نحصي العدد.

من المعروف أنّ تلاوة القرآن لها ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى وعلى مدار السنة، وكلّ آية ترفع الإنسان درجة، والدرجات إلى ما شاء الله، فكيف الحال في شهر رمضان؟ حيث لا يرتفع الإنسان درجة فقط، وإنّما إذا تلونا آية، فلنا ثواب وأجر كمن تلا القرآن كلّه خارج شهر رمضان.

وليس المقصود بالتلاوة القراءة السريعة والشفهيّة، بل القراءة بتأمّل وبتفكّر وبتدبّر، أن نفهم ماذا نقرأ، وهذا ما دعانا إليه الله، لا أن نتسابق مع الزمن لنختم القرآن: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (محمد: 24).

وإن شاء الله لا نكون ممّن يهجر القرآن-والعياذ بالله-؛ لأنّ القرآن حينئذٍ سيشكونا إلى الله يوم القيامة.

ـ "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَبْوَابَ الْجِنَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُفَتَّحَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُغَلِّقَهَا عَنْكُمْ، وَأَبْوَابَ النِّيرَانِ مُغَلَّقَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُفَتِّحَهَا عَلَيْكُمْ، وَالشَّيَاطِينَ مَغْلُولَةٌ، فَاسْأَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ لا يُسَلِّطَهَا عَلَيْكُمْ"؛ في الشهر الفضيل تكون الشياطين مغلولة، ولكنّ بعض الناس هم شياطين، مضافاً إلى الأنفس الأمّارة بالسوء، ولذلك الجهاد الحقيقيّ هنا هو جهاد النفس.

ـ "فَقُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ؟"؛ في آخر الخطبة، يسأل أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الأعمال في هذا الشهر.

ـ "فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: يَا أَبَا الْحَسَنِ! أَفْضَلُ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ: الْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ الله"؛ أي الابتعاد عن المعاصي وعدم ارتكاب الذنوب. أن يراقب الإنسان نفسه في ما يقول وفي ما يفعل، وفي ما يُقدّم وفي ما يُؤخّر، فإذا كان فيه معصية لله نجتنبه، وإذا كان فيه طاعة لله نفعله.

أريد التذكير بكلام لأمير المؤمنين عليه السلام: "لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض"(1)، ثمّة من يتّجه إلى الأعمال المستحبّة، كأن يصلّي صلاة الليل وينام عن صلاة الصبح، أو يقوم بذاك المستحبّ وبالمقابل يؤذي زوجته أو العكس، أو يؤذي أهله ورحمه ومن حوله. الأصل، أفضل الأعمال على الإطلاق الورع عن محارم الله، واجتناب الآثام والذنوب والمعاصي.

•فرصة قد لا تتكرّر
إنّ شهر رمضان ليس شهراً للترفيه، كما يحاول أن يحوّله إلى ذلك بعض الناس، وهنا لا أتحدّث عن الحلال والحرام. وشهر رمضان ليس شهر استراحة بعد تعب أحد عشر شهراً، بل هو شهر الجهاد الأكبر، شهر جهاد النفس، والجهود والتعب والجوع والعطش والصيام والتلاوة والصلاة والعبادة والعمل الحسن، الشهر الذي يجب أن نستغل دقائقه وثوانيه كلّها؛ فضلاً عن ساعاته وأيّامه ولياليه؛ لأنّنا لا نعلم إذا كانت هذه الفرصة ستتاح لنا مرّة أخرى أم لا، ويجب أن نشكر الله في كلّ مرّةٍ يعيد فيها هذا الشهر علينا.

هل تعرفون مَن أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة؟ أهل النار من أهل الحسرة، ولكن هناك الكثير من أهل الجنّة هم أيضاً من أهل الحسرة؛ لأنّهم سيكتشفون وهم في الجنّة كم ضيّعوا من فرص كانت متاحة لهم في الدنيا؛ في المباحات، واللّهو، واللّعب، والسهرات، خاصّةً عندما يرون درجات ومقامات أولئك الذين استفادوا من هذه الساعات ومن هذه الليالي والأيّام.

•شهر المصالحات
وأخيراً، ما أوصي به أيضاً في هذا الشهر المبارك، أن يكون شهر المصالحات بين أفراد العائلة والأقارب، والذي يبادر بالمصالحة هو عند الله سبحانه وتعالى الأفضل والأكرم، بمعنى أن يتنازل عن حقّه ويبادر باتّجاه الشخص الآخر.


(*) كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك، بتاريخ 7 أيّار 2019م.
1.نهج البلاغة، الحكمة (39).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع