د. علي عبد الله فضل الله(*)
ثورة، انتفاضة، حراك. تعدّدت التسميات والتوصيف لمشهد واحد، وهو احتجاجات شعبيّة ضدّ واقعٍ معيّن. ولكن إلى أيّ مدى تتطابق هذه التسميات مع الواقع؟ وبمَ تتمايز الواحدة منها عن الأخرى؟ هو ما سنتعرّف إليه في هذا المقال.
•لماذا ثورات ملوّنة؟
إنّ مصطلح "الثورات الملوّنة" (Color Revolution) هو اختراع وسائل إعلام لوصف احتجاجات متفاوتة الحجم، ضدّ حكومات بلادها، وقد حدثت في عدد من بلدان العالم في التاريخ المعاصر. ويُقصد بها هبّات شعبيّة قامت في وجه السلطات، للمطالبة بـ"إصلاحات" سياسيّة واقتصاديّة، وثقافيّة أحياناً، واعتمدت، مبدئيّاً، على وسائل غير عنفيّة للتغيير. وقد حظيت بعض هذه التحرّكات بتغطيات إخباريّة مكثّفة وواسعة النطاق، في زمن أصبح كلّ فرد وسيلة لبثّ وتلقّي المعلومات اللحظويّة عبر هاتفه النقّال ووسائط أخرى.
أمّا تعبير "ملوّنة"، فهو خرج لوصف "الرمز" المرافق للهبّة الشعبيّة في زمن التواصل المتزايد بين الناس. في الحقيقة، لم توسم أغلب هذه "الثورات" بالألوان بالضرورة، فبعضها عبّر عن رموز غير لونيّة، كما سنرى. لهذه التعميمات في الصورة أثر في الترويج الواسع لحركة الناس الاحتجاجيّة في الداخل والخارج، وهي تمظهرات فنّيّة تلقى معدّلات قبول واستجابة أعلى عند المنتفضين، وتؤدّي إلى توتّر الفئات المتصدّية لهم.
•تحرّكات وفروقات
في أكثر الحالات، لا يمكن وصف الاحتجاجات الشعبيّة بالثورة، فالثورة تعني انقلاب الجمهور التامّ على النظام السابق. وهي لا يمكن وصفها بالحراك الشعبيّ (Social Action) دوماً، فهي ليست مجرّد نشاط يوميّ اعتياديّ، بل نراها تكسر "ستاتيكو" قائماً منذ حين. كما أنّها قد تكون انتفاضة (Uprising)، وذلك عندما تندلع الاحتجاجات بسبب قرار حكومي أو حدث محدّد، وليس من أجل إحداث تغيير واسع.
دائماً ما يرغب "متعهّدو الثورات" في إلباس التحرّكات الشعبيّة ثياباً فضفاضة لتحقيق الاستثمار الأقصى من غضب الناس وارتباك الحكومة. وعلى الرغم من أنّ التوصيف الأفضل لأغلب الاحتجاجات هو كونها "انتفاضة تتحوّل إلى حراك دون أن تصبح ثورة"، فإنّهم يبالغون في تقدير عدد المشاركين فيها، وتقدير حجم الخسائر في حال حدثت صدامات مع قوّات الأمن، وتقدير الإنجازات التي حقّقتها. وفي حال كان النظام سلطويّاً وغير مرضيّ عنه من قِبَل أغلب الناس، فإنّ تحقيق الهبّات الشعبيّة -محدودة كانت أو واسعة- لإنجازات مهمّة، يصبح معقولاً أكثر ومتوقّعاً أكثر.
•"الثورات" في التاريخ المعاصر
يمكن رصد بدايات إطلاق لقب "الثورة الملوّنة" في مرحلة الثمانينيّات من القرن الماضي. ففي الفليبّين؛ البلد المتأرجح بين "استعمار" أميركيّ مديد، وبين حالة استقلاليّة فاعلة، حدثت "الثورة الصفراء" ضدّ النظام الحاكم، وبلغت ذروتها عام 1986م. وفي تشيكوسلوفاكيا، مثلاً، حدثت "الثورة المخمليّة" عام 1989م. وفي يوغوسلافيا، تمّ الحديث عن "ثورة الجرّافة" عام 2000م. وفي جورجيا، كانت "الثورة الورديّة" عام 2003م، ثمّ في أوكرانيا كانت شهرة حراكها الشعبيّ هي "الثورة البرتقاليّة". وفي عام 2005م، أشاع الإعلام تسميات "الثورة الزرقاء" في الكويت، و"ثورة الأرز" في لبنان، و"ثورة التوليب" في قرغيزستان. وفي العام 2009م، ضجّت وسائل الإعلام المؤثّرة بتسمية "الثورة الخضراء" في إيران. ومع بداية ما سمّي بـ"الربيع العربيّ" عام 2011م، تمَّ إطلاق تسميات عدّة من نوع: "ثورة الياسمين" في تونس، و"ثورة اللوتس" في مصر، و"ثورة اللؤلؤة" في البحرين. وتزامن ذلك مع تبنّي إعلاميّين غربيّين تسمية "ثورة الثلج" على تحرّكات احتجاجيّة حدثت في روسيا عام 2011م.
هذه "الثورات"، وغيرها، كانت استكمالاً لخضّات شعبيّة لم يخلُ منها زمن، وبالتحديد في النصف الثاني من القرن العشرين. ودون التعمّق في أصولها، يمكن مراجعة جذور إلهاميّة لها في ثورة الطلّاب في فرنسا عام 1968م الشهيرة، وربيع براغ في العام نفسه، وفي حدث كبير جدّاً هو الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م، وهي ثورة لم يكن يتوقّع الأميركيّ فيها أن ينتصر الشعب على الشاه، بكلّ قوته الجبّارة، كما يقول مؤرّخ الـ(CIA) "بوب وودورد".
•ترويج غير بريء
طبعاً، ومن أجل المحافظة على قراءة موضوعيّة وسليمة لهذه الأحداث، لا بدّ من البقاء على مسافة كافية من مسمّى "ثورة"، والحذر من دور الإعلام، الغربيّ تحديداً، في الترويج لبعضها. بعض هذه الأسماء شاعت وانتشرت، وبعضها لم تحفظه الذاكرة، وهناك دور فعّال لأجهزة الإعلام في ذلك. فكلّ "ثورة" تقع في بلد خصم للولايات المتّحدة ستحظى بالدعم الإعلاميّ وغير الإعلاميّ، وتصبح حديث قادة الرأي والمحلّلين، وينعكس ذلك في حضورها في الأذهان، حتّى لدى أولئك الحريصين على الموضوعيّة وفهم الأمور كما هي. في المقابل، فإنّ كلّ "ثورة" تحدث في بلد صديق للولايات المتّحدة، فمصيرها التهميش، ولا يُتوقّع أن يتمّ الحديث عنها إلّا في نهاية نشرة إخباريّة، أو عرَضاً، دون تحليل دلالاتها ومعانيها، فتغيب عن الذاكرة، حتّى لدى أولئك المهتمّين بفهم الوقائع واستشراف المستقبل كما يجب.
أكثر من ذلك، فإنّ تمتّع "ثورة" معيّنة بتغطية إعلاميّة فعّالة، يؤدّي إلى تنشيطها، والترويج لسرديّتها، وبثّ الثقة لدى القائمين عليها، فيطول أمدها، وقد تزداد فرص تحقيقها لبعض المكاسب، لكنّها تبقى مهدّدة بالانهيار متى قرّرت الدول القويّة تركها. وهذا أمر مهمّ، فالتجربة التاريخيّة مع سياسيّي الغرب أنّهم يتركون حلفاءهم في الدقيقة تسعين، ثمّ يهرولون للتواصل مع خصومهم في حال ثبات الأخيرين. أمّا "الثورة" الأكثر قرباً من شعبها وناسها، والتي تعترف بأخطائها، وترفض التدخّلات الخارجيّة فيها، فإنّها الأقدر على الاستمرار، والأكثر احتماليّة أن تحقّق أهدافها، ولو على مدى زمنيّ أطول.
•ثورات عبر الهاتف!
عبر التاريخ، إنّ انفجار الثورات القادرة على تغيير "النموذج المعرفيّ" (Paradigm) للأمّة هو أمر لا يتكرّر كثيراً، ويحتاج إلى وقت طويل وظروف مناسبة. إنّ ميزة "الثورات الملوّنة" هي سرعة تفاعلها وتحشيدها للناس في اللحظة المناسبة. يعود هذا التغيّر في صناعة الثورة أوّلاً إلى تطوّر وسائل الاتّصال، خصوصاً لدى الجيل الجديد. فالشباب، اليوم، هم مشاركون لحظويّاً في أيّ أمر يحدث في بلادهم والعالم، فيعلّقون ويتناقشون ويعبّرون عن غضبهم ويأسهم وأحلامهم ضمن مجموعات من الأصدقاء والأصحاب عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. هذا ليس تفصيلاً، وكثيرون منهم لديهم القدرة الفائقة على كتابة رسالة أو تعليق سريع عبر هواتفهم. إنّ أوّل ما بات الإنسان ينظر إليه عندما يستيقظ هو هاتفه النقّال، وكذلك قبل أن ينام.
•التلفزيون أوّلاً
على الرغم من أهميّة وسائل التواصل الاجتماعيّ، فقد أثبتت تجارب الثورات الملوّنة أنّ التلفزيون هو لاعب لا زال يحجز موقعاً مميّزاً في حياة الإنسان. فقد انخفضت تكاليف البثّ المباشر، وطبيعة الناس تهتمّ بـ"تلفزيون الواقع"، ونقل الأحداث كما هي على الأرض. فنجد أغلب المشاهدين متسمّرين على الشاشات، بتوتّر وغضب، فيتضاعف قلقهم، وهذا في الواقع يشوّش الصورة الكلّيّة للأحداث. فمن شروط الفهم السياسيّ الجيّد للأمور عدم الغرق في تفاصيل جزئيّة، إلّا إذا كانت مؤشّراً على قضيّة مبهمة.
بناءً عليه، يحمل الناس هواتفهم في أيديهم، ويشاهدون البثّ المباشر في منازلهم وأعمالهم وجلساتهم، فيصبحون في صميم التفاعل مع أيّ حركة صغيرة يقوم بها "الثوّار". وهذا يمنح الأخيرين قدرة على صناعة الحدث والصورة، قبل أن يحلّ الملل. ففي زمن السرعة، تواجه "الثورة" احتمالات ملل الناس السريع أيضاً. هذا كلّه صنعه تطوّر وسائل الاتّصال، والخدمات التي تحتويها، وانعدام تكاليفها الفعليّة. وكما هو معروف في الأنظمة الرأسماليّة المتوحّشة التي نعيش في ظلّها اليوم، فإنّ لكلّ سلعة ثمناً، ولمّا كانت خدمات وسائل التواصل مجانيّة، فإنّ الجواب الخطير على ذلك هو أنّ المستخدم لهذه الوسائل هو السلعة.
(*) أستاذ حوزويّ وجامعيّ.