السائل الحق هو المبدئ والمعيد الذي أحصى على عباده عدد أنفاسهم ونظرات أعينهم وخطرات وساوسهم... وكلّ سؤال أو حساب إذا لم يكن بأمره تعالى وإذنه فهو سراب، وكلّ مسؤولية إذا لم تنته إلى دينه وشريعته فما هي بشيء، أما الضمير والوجدان فقد يموت أو يعمى في القلوب العليلة كما قال سبحانه: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج/46ٍٍ].
وإن يك الضمير حياً بصيراً يأمر بالخير وينهى عن الشر، فليس في وسعه أن يُنفّذ أو يعاقب العصاة بما يستحقون، ومن قبل قال أرسطو: "لو كانت الخطب والكتب تجعلنا أخياراً لكانت مطلب الناس أجمعين". وكلنا يحفظ قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: لا رأي لمن لا يُطاع. والقوانين حبر على ورق، والسلطة التي تحميها إن تك جائرة فحاميها حراميها، وإن تك عادلة أمكن الاحتيال عليها والفرار منها. والله وحده لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب.
ومن حكمته تعالى وعظمته أن لا يعاجل المسيء بنقمته، وهو مستوجب لها بلا شك في أول ما همّ بالمعصية، ولك أخّر سبحانه وتمهل إلى يوم الحساب .. حتى في هذا اليوم لا يعاجل بما أعدّ للمسيء من سطوات وضربات، لأنّه – كما قال أمير المؤمنين عليه السلام – "إنما يعجل من يخاف الفوت"، والله سبحانه كيف يخاف الفوت؟! إذ هل يمكن للمسيء أن يفر من حضرته تعالى والعالم كله محضره؟، بل يكشف له أولاً عن كل ما فعل وترك، ويُعرّفه بكل ما فكّر وصمّم، ويُخرج له كتاباً منشوراً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلاّ أحصاها كما في الآية 49 من الكهف.
وفوق كلّ ذلك يُشهِد عليه لسانه ويديه ورجليه وجميع وجوارحه، ثم يعاقب أو يعفو، والهدف الأول والأخير من هذا الشرح العريض الطويل، أن يبين، تقدست أسماؤه، فضله عند العفو، وعدله عند العقوة مع علم اليقين بأن الله هو الحق لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولكن هذا هو شأن الألوهية: إحسان وإفضال. وعظمة وجلال... وأيضاً ﴿ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال/42].
وبعد، فإن للكلام في هذا الموضوع بداية بلا نهاية. والمهم أن لا ننسى موقف العرض والحساب بين يدب جبار قهار... وتسمى هذه المسؤولية أمام الله سبحانه مسؤولية دينية، وهي الأصل والأساس لكلّ إنسان مكلف، قال تعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ [الصافات/24].