فاطمة السيد قاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾ سورة الروم / الآية 10.
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ سورة آل عمران / آية 178.
هذه هي الآيات القرآنية الكريمة التي قرأتها العظيمة زينب عليها السلام التي تحدت الطغاة من خلالها أمام يزيد وجلاوزته الذين أغوتهم الدنيا وأرهبتهم القوة، بحيث أنّ هذه السيدة الجليلة التي ما زلنا نحيي ذكراها في أجواء عاشوراء الحسين عليه السلام ذكرى انتصار الدم على السيف كيف أنها جردت يزيد من كل ألقابه وراحت تتحدث عن مبادئ الحق والحرية والعدالة الاجتماعية وأوضحت لنا حقيقة من أصدق الحقائق في الحياة، وهي أن الانتصار العسكري أو السياسي القائم على الطغيان والظلم والرشوة لا يعني أنّه سيدوم ولا يعني أنّه ثابت قوي، انتصار تحقّق في موضع ما، يزول بعد أيام لكن الحق أبقى، والحق يظلّ منتصراً حتى ولو كان تحت سنابك الخيل وحوافراها.
فالسيدة زينب عليها السلام لم تقرأ هذه الآيات على مسمع يزيد بن معاوية لمجرّد أن تقرأ بل لأنّها كانت حقيقة ما تشير إليه هذه الآيات من مسألة هامّة ودقيقة علينا جميعاً أن ندركها حتى نعرف موازين الحياة، وهذه المسألة هي الحالة السيئة التي سيصل إليها الذين كانوا يكذبون بآيات الله ويسخرون منها وبأن الله يمهل ولا يهمل، وأنّه يملي للظالمين أي يمهلهم ويمدّ في أجل بعضهم، حتّى أنّه يوفد لبعضهم النعم من أموالٍ وبنين وجاه، كلّ ذلك امتحاناً لهم واستدراجاً ليزدادوا إثماً فيحقّ عليهم العذاب الأليم، فالمجتمع الذي يأخذ ويبهر بسلطة المال ويرهبه التهديد والوعيد يتحول إلى مجتمع فاسد لأنّه يعتمد إلى جانب المال والقوة على ضعف النفوس الواهية التي تكون ركيزة أساسية لاستثمار الحكم الفاسد "كما تكونوا يولّى عليكم".
فالتاريخ يعيد نفسه بحيث أنّه لما وقعت حادثة كربلاء أخرج ابن زياد كلّ ما في بيت مال المسلمين بأمر من يزيد بن معاوية لشراء الضمائر والنفوس، فالذي يخرج لحرب الحسين يعطيه المال والذي يتأخر يقتله، لذلك يقول الفرزدق للحسين عليه السلام: "قلوب الناس معك ولكن سيوفهم عليك" والحسين عليه السلام يقول: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم".
وفي أيامنا يطل علينا أئمة الظلم والجور من جديد المتمثلين بأميركا ومن ورائها إسرائيل ظناً بأن النصر سيكون حليفهم، "لم يدركوا بأن الله يملي للذين كفروا وإنّ الباطل يمكن أن يكسب بعض الجولات" بما لديه من مال وسلاح، لكننّا نقول لهؤلاء ومن يقف خلفهم كما قالت سيدتنا زينب عليها السلام ليزيد نستعرض بعضاً منها: أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء بأن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة؟ فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلاناً مسروراً، حيث رأيت الدنيا لك مستوبقة والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟ فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا…."
وهكذا واجهت العقيلة زينب عليها السلام يزيد بن معاوية بسلطانه وجبروته ورفعت كلمة الحق عالية في وجه الطغاة وذكرتهم بقانون الحياة بأن الله يملي للطغاة حتّى يزدادوا كفراً وطغياناً وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأليم، ونحن علينا أن نعرف مع من يجب أن نكون: مع أئمة الجور ونحشر معهم يوم القيامة جزاء ما قدمت أيدينا أم نكون مع أئمة الحق والواقفين بوجه الطغاة بحيث أيضاً نحشر معهم يوم القيامة جزاءً في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
وهكذا رسمت لنا زينب عليها السلام وأهل بيتها الأطهار سلام الله عليهم مثلاً رائعاً للتصدي للظالمين الفاسقين بحيث لأن لا نخاف في الله لومة لائم، وأن لا يثنينا شيء عن مواصلة نضالنا في سبيل الله والإسلام.
سيدتي يا زينب ما أعظمك من امرأة وما أعظمها من كلمات وما أبلغها من معنى، فكد كيدك واسعَ سعيك وانصب جهدك فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا….
فبقدر ما تحمله من عظمة وعزة وإباء وشموخ وكبرياء بقدر ما فيها من تقريع لنفوس وضمائر أئمة الكفر وأشياع الضلالة، الذين داسوا الحقوق وظلموا ونافقوا، كأني بك تقولين لهم بأن دولة الباطل سرعان ما تزول ودولة الحق إلى قيام الساعة.
سيدتي أيتها الصوت الذي دوى في عروش الظالمين فأسقطها، يا من آثرت الصبر والتجلد وأنت تشاهدين بأم عينك مصرع أخيك الحسين عليه السلام.
سيدتي بموقفك هذا شكلت صرخة ضد الطغيان.
سيدتي أيتها الصابرة المجاهدة لقد جسدت فينا كل معاني البطولة والعظمة والحق والعدل والحرية.
يا بطلة كربلاء أيتها النفحة الطاهرة يا ابنة فاطمة يا ابنة رسول الله يا ابنة علي يا أخت الحسن والحسين عليه السلام ما زال عنفوانك، ما زال صبرك في كربلاء يهز قلوب الشرفاء والأحرار والمجاهدين، وقفت وصوت الحق يتفجّر كالبركان فوق شفاهك كيف لا يكون لك ذلك وقد ترعرعت في حجر أمك الزهراءعليها السلام.
لقد خطبت في الناس فحدثتيهم عن الإسلام وعظمته، وعن الأغلال والقيود التي حطمتها وكسرتها، ثم أعلنت الحرب على يزيد بعدما كشفت للناس عن الأسباب والعوام التي أدت إلى ظهور يزيد الفاسق الفاجر في المجتمع وجعلتْ منه حاكماً مصلتاً سيفه على رقاب البشر.
سيدتي لقد كشفت حقائق مذهلة في خطبك أمام أهل الكوفة وأمام عبيد الله بن زياد وأمام يزيد الطاغية، ومن بين الحقائق التي كشفتها، هي الحقيقة التي نحن بصددها وهي انتصار الحق والإيمان، على الباطل والكفر.
يا ابنة رسول الله كم كانت كلماتك تنم عن موقف المرأة المجاهدة التي تتحدّى الظالمين، فلم تكن مجرّد كلمات عادية نفثت صدرك بها لأنّك امرأة تعاني من السبي والأغلال أبداً… لم تكن خطبتك من هذا القبيل، ولا من هذا المنطلق.
لقد علمتنا يا سيدتي ومولاتنا كيف نحافظ على عزتنا تلك العزّة التي لا يستطيع أحد مهما بلغت قوته ومهما بلغ ظلمه أن يذلها ويقهرها.
فسلام عليك أيتها الصابرة المحتسبة المجاهدة وسلام على جدّك وأبيك وأمك وأخيك.
فعهداً لكم وقسماً لك سيدتي يا زينب بأن انتفاضتك هذه وثورتك ستبقى على طول الخط مؤجّجة لروح الثورة والمناعة من إماتة ما استشهد من أجله الإمام الحسين عليه السلام حتّى ظهور صاحب العصر والزمان الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف المنتظر أرواحنا له الفداء.