ولاء
يقول الله جلّ وعلا في الآية التاسعة والثمانين والآية التسعين من سورة الأنبياء: (بسم الله الرحمن الرحيم، وزكريا إذ نادي ربّه، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه، إنهما كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رَغباً ورهباً، وكانوا لنا خاشعين) صدق الله العظيم.
ترتبط مقالة هذا العدد بالمقالة السابقة برابطة الأخوة التي تربط ما بين السيدة "حنة" التي ذُكرت سابقاً وسيدة هذه المقالة التي تختص بأنّها امرأة ورد حديثها عابراً في ظاهر النص القرآني ولكنه في العمق يرتبط قرآنياً بسيرة نبيين من أنبياء الله... وهو حديث يصِلها بنبي زوجاً وآخر ابناً، وطوبى لمن ركبت قطار العمر وسائقة إلى محطة الأمان نبيّ لله ورفيقها قبل نهاية الرحل نبي آخر.
يلامس أشواقها البعيدة بفيض من سنا النبوة، من هي هذه السيدة؟ من هو زوجها؟ من هو ذاك الرفيق وكيف بدت بينهما؟
إنّها أم يحيى وزوجة زكريا بن برخيا شقيقة حنة أم مريم أكْرِم به نسباً يتصل من كلّ أطرافه بشلالات الرحمة المنهمرة على العالمين نبوةً واصطفاءً، إنّها أليشاع الابنة الثانية لقوفاذ بعد حنّة، وأليشاع كحنة لم تحمل كنيتها التي تصدرت عنوان المقالة مباشرة بعد زواجها، من زكريا، لقد طال زمن حلمها لنسمةٍ لطيفة على مسافة ثامنية وتسعين عاماً وهنا يكمن سرّ خلود أليشاع في كتاب الله وسرّ تفردها عن شقيقتها التي بدت وفق النص التاريخي والقرآني شابة قادرة على المبادرة والحركة والقرار. ترى كيف بدت أليشاع في النص الإلهي قبل وبعد استجابة الله لزكريا فوهب لهما معاً يحيى...؟
يبدو جلياً لمن يبحث في الصفحات المباركة لكتاب الله.. أنّ النص القرآني قد التقط لأليشاع صورةً فوتوغرافية واحدةً وأبرز لها فيها صفةً جامدةً، لا حركة متتالية متوالية كما سائر النساء المذكورات فيه، لم تتحرك أليشاع على مسرح النص القرآني كما فعلت بلقيس أو حنّة أو مريم أو أخت موسى اللواتي ظَهَرْن فيما يشبه شريطاً سينمائياً صورة أليشاع في القرآن صورة شمسية بكلّ ما للكلمة من معنى معاصر، هي صورة المرأة العاقر التي كانت تعاني شوقها للأمومة بعد أن تجاوزها قطار العمر وهي ما برحت مكانها في محطة الانتظار الثابت، لم يُخبرنا كتاب الله مباشرة أنّها عانت هذه المعاناة أو أنّها دعت ربّها طلباً للولد مستقلةً... أو أنّها قامت بفعلٍ ما بعد أن بشّرها زكريا بمجيء يحيى، يبدو زكريا للوهلة الأولى وحده يدعو ربه دعاءً خفياً. ووحيداً كان يعلن أن الرأس قد اشتعل شيباً وهو تولى إعلان عقم زوجته، وقد ورد هذا الأمر في أكثر من سورة وآية، ففي سورة آل عمران وفي الآية الأربعين منها وفي معرض استعظامه وإكباره لقدرة الله جلّ وعلا بعد أن بشّره بيحيى: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ .
وفي سورة مريم وفي الآية الخامسة منها وفي معرض استهلاله دعاءه للباري: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا﴾ نلاحظ مما تقدم أن زكريا عليه السلام يمثل في هذا النص الدور الرئيسي على خشبته فهو يتحرك بفعالية مميزة، يتنقل بين الدعاء وبين الشكر وبين الناس بدقة نبي ولهفة أب وخشوع مؤمن، وأليشاع إلى جواره زوجة عزيزة عليه حريصٌ عليها وهو بدعائه لنفسه إنما يدعو لها، فذِكْره لها يتكرّر مرتبطاً بذِكرِه صفتها الوحيدة البارزة التي رصدها كتاب الله، وهي صفة العقم الذي كان يؤلمها ويؤلم زكريا، ثمة دلالة تجدر الإشارة إليها هنا هي أن أليشاع كان عاقِراً منذ صباها وأنّ زكريا دعا الله... وهو يوقن بقدرته سبحانه على اجتراح المعجزة وإن كانت زوجته في الثمانية والتسعين من عمرها كما في بعض الروايات وإن عمقها ليس بعامل الشيخوخة فحسب بل هو صفة لازمة في مرحلة صباها وشبابها حيث يسبق الفعل الماضي الناقص "كانت" إعلانه عقمها مرتين في نفس سورة مريم، وذلك في الآية الخامسة التي سبقت الإشارة إليها، وفي الآية الثامنة حيث يتلقى بشارة الله له بيحيى بتساؤل يحمل في صيغته التعجبية إعلاناً لواقع حاله وإعلاناً لماضي زوجته وحاضرها المرتبط بمثل حاضره، وهذا ما يبدو جلياً واضحاً في سورة آل عمران حيث
يعني اختفاء الفعل الماضي الناقص من الآية الشبيهة لما سبق ذِكره: ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ تقرير ملازمة العقم لها، فهو يتحدث عن حالها وحاله بعد تلقيه البشارة لا قبله، ومن الجدير بالذكر أيضاً أن أليشاع وحدها بين سائر النساء اللواتي ذكرهن القرآن الكريم في معرض الحديث عن أمومةٍ متأخرةٍ قد تميزت بذكر عمقها هي خلافاً لأختها أم مريم أو لسارة زوجة إبراهيم الخليل التي سيأتي حديثها في مقالة أخرى، فسارة لم تنجب لإبراهيم إلاّ في عمر متأخر ولكن القرآن لم يشر إطلاقاً إلى عقمها أو مسؤوليتها في عدم الإنجاب، ولهذا الأمر تفسيره حيث جاء يحيى إكراماً لأليشاع ومكافأةً لطول أناتها في عقمها وفي أواخر عمرها بنسمة ربيعية خففت رمادية موسم خريفها الذي دخل بوابة شتاءٍ كئيب لو لم تتداركها رحمة إلهية أكيدة، وفي الآية التسعين من سورة الأنبياء: (وأصلحنا له زوجه) لتبين وجود خلل ما يختص بقدرة أليشاع على الإنجاب وكلمة "أصلحنا" تتضمن دلالة واضحة أنّ الشيخوخة لم تكن وحدها عجزاً عن الإنجاب، إنّ الأمر أكبر من ذلك بكثير، إنّه إرادة إلهية اختبرت مستوى علاقة أليشاع بالله... ومدى قدرتها على الصبر والرضا إنْ حُرمت والشكر إنْ أُعطيت وتأتي بقية الآية المذكورة لتشير إلى أجواء مكافأةٍ سنيةٍ لمزاياها هي الأخرى سنيةٌ رضية، ففي نفس الآية يتابع الله جلّ وعلا بعد إعلانه إصلاح حال زوج زكريا وصفه لزكريا وزوجه وابنه أيضاً فيقول: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين﴾َ لذلك استحقت أليشاع وبتصريح القرآن مكافأتها بالأمومة في أرذل العمر لأنها كانت وبدليل الآية المذكورة تشارك زوجها الدعاء والصبر والرضا وكانت خاشعة خاضعة لله تماماً كزوجها خلافاً لقراءة الوهلة الأولى، ونأتي الآن إلى شأنها مع يحيى كأم، ماذا عن يحيى وعن أم يحيى؟
لا يخبرنا القرآن الكريم أي شيء عن كيفية استقبال أليشاع نبأ أمومتها المقبلة ووليدها الذي كان حلماً واستقبلته بين يديها واقعاً ولا أغلى، لقد ألقى الضوء ساطعاً على زكريا وهو يدعو الله ويستقبل البشرى ثم وهو يعلنها لقومه بعد أن أوحى إليهم بالتسبيح بكرةً وعشياً وأليشاع تقع من قومه بالنسبة إليه موقع الشريك الكامل في موسم استقبال الفرح الوليد نبوةً ومعجزةً، لذلك استحقت معه في ما بعد وبفضل من الله برّ يحيى وعطفه وحنانه وإلى ذلك تشير الآيات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة عشرة من سورة مريم حيث تأتي كلمة "وبراً بوالديه" في سياق هذه الآيات صورة فوتوغرافية رائعة تجمع بين أليشاع وزكريا في مشهد عائلة رائع يضم النبي الوليد. على دفٍ وشوق باركهما الله له ودعاه ليأخذ كتابه في الحياة بقوة تدعم رسالته النبوية وذلك في النص القرآني التالي: ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا، وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا ً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ﴾ .
ونحن على مشارف نهاية مقالة هذا العدد نترك النص القرآني الخالد يرسم بريشة الإعجاز المدهش عِبر الماضي ومآثره وليأخذ بمشاعرنا نحن اليوم فنترك بدورنا أنفسنا تنساق بوعيها وشعورها إلى القول سلامٌ على يحيى الذي وُلِدَ نبياً وعاش نبياً واستشهد نبياً، سلامٌ على أبي يحيى الذي دعا ربه مخلصاً له الدعاء موقناً بالإجابة الإلهية العظيمة...
سلامٌ على أم يحيى، سلامٌ على أليشاع، يوم صبرت على بلاء العقم والحرمان ويوم وقفت تؤمّن على دعاء زوجها النبي وتسارع معه إلى الخيرات ويوم استقبلت البشرى وشاركت بفضلٍ من الله... في صناعة الحياة تحيةً إن كتاب الله قد ذكرها في صفحاته مع العابدات الصابرات وترك للدهر ترتيل آية تمجّد في أليشاع تقاها وورعها، لتبقى في النص الإلهي امرأةً جديرةً بزوجية نبي، وأمومة نبي وإن طال زمن عقمها وبَعُدَت بها سنين العمر...