حوار: ولاء حمود
يتعرض "الحجاب الإسلامي" لحرب ضروس شعواء؟ هذا هو الموضوع. أما شخصية الحوار الحاجة عفاف الحكيم، فأترك للحوار تقديمها وتقديم أسئلته إليكم.
* كيف ترى مربية الأجيال العلائق الخفية بين خمار جدَّتنا، ومنديل أُمنا، وحجاب فتياتنا وعباءة نساء جيلنا؟
لم يكن الحجاب محارباً، عندما كان تقليدياً، خالياً من مفاهيمه الثورية المعاصرة في جيل جدَّاتنا وأمهاتنا كانت العباءة الخليجية، للمرأة العربية، تجول في كل أسواق أوروبا، دون أن يقف أحدٌ في وجهها. وقد كانت مرتبطةً بغطاءٍ على الوجه، ولم تُحارب أبداً. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبعد أن أصبح للحجاب معنىً وقيمة وتعبير عن هوية محددةٍ، بدأت الخطورة، وبدأت المواجهة مع الغرب وبدأنا نرى دولاً غربية، تترك كل مشاكلها المزرية وتتمسك بمنع امرأةٍ في الجامعة من حجابها، وتترك كل أوضاعها الداخلية الشائكة، لتمنع طفلةً في مدرسة من غطاء رأسها... واتجهت إلى محاربة الحجاب، لأنها تظن أن الخطورة تكمن في هذا الدين العظيم المتجلِّي في هذا الحجاب.
* لماذا؟ ألأنه بات بارتباطه الثوري مشاغباً مزعجاً، خلافاً لحجاب الأمس الذي كان تلميذاً مثالياً عاقلاً منضبطاً على إيقاع المفهوم الشعبي السَّائد "يا ربِّ السُّترة"، الأمر الذي لم يكن يشكل مع الحضارة الغربية صراعاً عقائدياً، بل مجرد صراع حضارات؟
ثمة مفارقةٌ بين حجاب الأمس واليوم كما أشرتِ في مضمون سؤاليكِ، وقد أوجدتها النظرة الغربية المستجدة للحجاب والتي اختلفت بدورها تبعاً لاختلاف منطلق ما بين الأمس واليوم، برأي الغرب طبعاً. هذه النظرة المستندة إلى موقف سياسي رافضٍ للإسلام كدينٍ عالمي، وتحسُّسه من مسألة وضع الحجاب كوظيفةٍ مستقبلية، لأنه بثباته فوق رؤوس النساء في الغرب، سيثبت هوية جديدة إسلامية، وذلك عبر نساءٍ واعيات، متعلمات، نشيطات وبذلك يتضح أن المستهدف هو ضرب الإسلام الذي نصَّ على الحجاب لا الحجاب بحد ذاته.
* نراه مقدَّساً يصون كيان "المرأة-الإنسان" ويجلِّل بالمهابة جمال الأُنثى فيها، ويرونه إرهابياً كأنه ترسانة حربية، ما الذي يُخفيه ويخيفهم؟
إنه يبرز ما يخيفهم، ويجاهر به وهو طرح الإسلام من خلال الحجاب، فكرياً وسياسياً وتعميمه عالمياً، كما طرحته الجمهورية الإسلامية في إيران بعد انتصارها هذا الانتصار الذي يعني قيام دولة تهتدي بهدي اللَّه وتكون مرهوبة الجانب، تنافسهم في تطورها وذلك عبر تطور نسائها تحت ظل رمزيةٍ شفافةٍ قيمية هي رمزية الحجاب المتقن، الذي كانوا يصفونه "بالحجاب الخميني" لأن الإمام الخميني قدس سره أعادنا إلى الإسلام الأصيل الذي يرفض أطماعهم ويعارض إفسادهم في الأرض. ويسعى لبناء الإنسان الذي يريدونه خادماً لمصالحهم عزيزاً شريفاً. لقد أعادنا سماحة الإمام قدس سره إلى تفاصيل الحكم الشرعي في كل جانب من جوانب حياتنا ولذا ارتبط الحجاب بأذهان معارضيه بالإمام الخميني الذي أحيى نهضة الإسلام وقيمه، وهذا بحد ذاته شرف كبيرٌ لكلِّ محجبةٍ مؤمنةٍ تبحث عن ذاتها في عبادة اللَّه.
إن أكثر ما يبرزه الحجاب ويُخيفهم، يتضح جلياً في قول قرأته لموشي دايان -عندما كان وزير حرب العدو: "إن ما يقلقنا هو هذا الحجاب الذي أصبح يغطي رؤوس أعدادٍ كبيرة من النساء في المجتمعات العربية والإسلامية". لقد علم دايان أن مسيرة الحجاب وقضيته تقود إلى الانتفاضة لرفض الظلم والمقاومة الصلبة لمواجهة مشاريع الهيمنة والاستكبار عن طريق أجيالٍ ربتها أمهات مُحجَّبات فأتقن ما أثبتته التجربة الحية في مواجهة احتلاله: "إن المقاومة تبدأ بحجاب على رأس امرأةٍ فاضلة تنشئ جيلاً مقاوماً وتنتصر ببندقية في يدِ مقاومٍ غذّته أمه مع الحليب حب الجهاد في سبيل اللَّه لنصرة دينه، بالانتصار للحجاب الذي فرضه اللَّه لمصلحة عباده في الدنيا والآخرة وبذلك تكون المواجهة الساخنة، في ظلِّه مع أعدائه، حاسمة لمصلحة قضايا الحق. وهذا وحده كافٍ لإخافتهم وهو ضمير بارز متصل بالحجاب وليس مخفياً مستتراً بين طياته.
* يجتاح الغزو الثقافي المجتمعات عبر بوابات الوسائل الإعلامية الواسعة الانفتاح، ما تأثيره على تمسك فتياتنا بالحجاب وما هو الدور المطلوب من الإعلام الإسلامي المعاصر الحديث الولادة بالقياس إلى الإعلام الآخر الذي بلغ من العمر عتياً؟
لأن الغزو الثقافي كما ذكرتِ هو أمرٌ واقع بالنسبة لنا ولغيرنا من الشعوب، وهو يترك على مجتمعنا شوائب كثيرة تسيء إلى الحجاب إن لم تكن صورته الحقيقية واضحة في بيوتنا، ولأن مجتمعاتنا اليوم تخوض مخاضاً عسيراً، رغم الإقبال الكثيف على الالتزام بالأحكام الشرعية، ولأن عملية الإتقان لا زالت متدنية عن المستوى المطلوب، لهذا نحن نحتاج إلى تكاتف وسائل الإعلام كافة (مرئي، مسموع، مقروء) في عملية الدفاع عن الحجاب وإيضاح مفاهيمه ونشر قيمه لمجتمعنا أولاً ودعاة السفور فيه وسائر المجتمعات، خاصة وأننا نعاني اليوم فوضى عالم الاتصالات وخليطاً من الإعلام المضاد الذي يدخل بيوتنا دون استئذان ويؤثر على الأفراد والجماعات.
ويهمني أن أشير هنا إلى وجود نقص في الأقلام الإعلامية النسائية القادرة على التبحّر في مفهوم فلسفة الحجاب وتحليلها كما شرعها الله لتقديمها بالصورة اللائقة التي تساهم في تقريبها إلى أذهان معارضيه ومحاربيه. ويشكل هذا الأمر مشكلة كبيرة؛ إذا ما حُلَّت عمَّ البشرية جمعاء خير هذه النعمة الإلهية السمحاء. وهنا لا بدَّ من لفت النظر إلى الدور السيّء الذي تقوم به وسائل الإعلام التي تحيط بفتياتنا من كل جانب، لتروج لحال حجاب لا علاقة له بالحجاب الإسلامي من إضافة مساحيق التجميل والألوان الصارخة والملابس الشفافة الضيقة التي صممتها دور أزياء تسعى لمجرد الربح دون مراعاة لحدود الحجاب التي رسمها الله سبحانه في الآيات القرآنية المعروفة. لذلك لا بدَّ من دعوة الأهل في البيت والمربين في المدرسة والإعلاميين الإسلاميين في مؤسساتهم للتعاون مع دور الأزياء التي تصمم الثياب الشرعية، لإصدار وترويج ما يتناسب مع مضمون الآية القرآنية الكريمة ﴿قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ (الأحزاب: 59) ولا بدَّ من تسليح الفتاة أولاً وأخيراً بالوعي الكامل والفهم التام للالتزام بالحجاب ليكون ارتباطها بهذا الحكم الإلهي سلاحها القوي الذي لا يفترض بها أن ترميه أمام طوفان المغريات الواسعة.
* "حجابك أختي، أفضل من دمي" وصية كتبها بدمه أحد شهدائنا الأبرار. هل سجلتها المرأة المحجبة في دفاتر المقاومة؟ هل حاكت تحت ظلال سيوفها خيوط حجابها ونشرته أمام جهادها رايةً تقود السائرين إلى ضفاف الانتصار؟ أي علاقة ربطت المرأة المحجبة المسلمة بالرجل المجاهد؟
هي علاقة سُمَيَّة شهيدة الإسلام الأولى بعقيدتها، حب الشهيدة بنت الهدى قدس سرها لحجابها حتى حدود الاستشهاد لأجله، وأم ياسر عباس الموسوي، على دروب المقاومة المعاصرة. لقد قدمت المرأة لمسيرة الحجاب شهيدات بمستوى الكاتبة الإسلامية الكبيرة آمنة الصدر (بنت الهدى)، التي نذرت أدبها للدفاع عن قضية الحجاب الإسلامي، والتي كان لها دورٌ تأسيسي في زمن التغريب الكامل للمرأة المسلمة عن هويتها الإسلامية الأصيلة، حيث كان مدّ الحجاب لينحسر، فبذرت الشهيدة بذوراً في هذا المجال، روتها بدمائها عندما عزَّ الرواة، مؤكدة بذلك على رمزية المرأة المحجبة وقيمتها الفاعلة في بناء الحياة في رضا اللَّه. أما في لبنان فقد انطلقت المرأة من خلال حجابها، تساند أخاها وتدفع زوجها وتقدم إلى ساحات الجهاد ولدها صنو حجابها، الذي لم يعقها أبداً عن الانخراط في صفوف المقاومة. بل أعاق تحركات العدو الذي اعتبر الحجاب أخطر سلاح في هذه المواجهة الشرسة. فقد أخبرتني معلمة محجبة من قرى الشريط الحدودي، أنه أثناء الاجتياح عام 82 وعندما علمت بدخول الصهاينة إلى قريتها، أعلمت المجاهدين وساعدتهم في نقل السلاح وعند عودتها، كان ضابط إسرائيلي واقفاً فقطع عليها الطريق مسرعاً ولطمها على وجهها قائلاً: إن هذا الحجاب "الخميني" يعرف أين هم "المخربون". ويجب أن تخبرينا الآن. وبالطبع لم تفعل، فأوقفوها مقيدة تحت أشعة الشمس الحارقة مدة تزيد عن ثلاث ساعات... حتى أتموا تفتيش البلدة بالكامل ولما أطلقوا سراحها انطلقت مباشرة لأداء مهمة أخرى، إلى جانب مهمتها الأساسية في شرح مفاهيم الحجاب وتكليفه وأهميته لصبايا القرية وتلميذاتها منها. أليست هذه أيضاً مقاومة؟
* والآن وبعد الانتصارين الكبيرين (إيران ولبنان) وقد بلغ الحجاب الإسلامي سلوكاً والتزاماً أشدَّه، وبات مرآة انتماءٍ مشرِّف، ممَّ تخاف الوالدة الروحية لمحجبات لبنان وأستاذتهن على مدى أكثر من ربع قرن، أعلى نفس الحجاب، الغزو الأميركي للعراق والمنطقة؟ أم على تحويله إلى مجرد غلافٍ جميل لتبرج معاصر؟ وكيف ترين مستقبله في المنطقة العربية ومنها لبنان والجوار العربي؟ وما هي آخر وأهم توصياتك التي توجهينها لنا، ولأجيالنا القادمة عبر حوارنا هذا؟
إن حماية الجيل الصاعد من المغريات المعاصرة هي أهم أولوياتنا. لذلك علينا أن نضع الخطط التشريعية لدور الأزياء والإعلام فيما يخص حماية الحجاب من "التموض" ومنعه من الانحراف عن جادة الشريعة السمحاء. علينا أن نساعدهم على تنظيم أوقات فراغهم، بوضع البرامج التربوية المفيدة والثقافية الهادفة لملء ساحات الفراغ الفكري والعقائدي كي لا تبقى مشاعاً لثقافات الآخرين التي لا تلائم حتى أولئك الآخرين، وعلينا أن نرتقي بالمستوى الروحي والنفسي للمرأة المسلمة إلى مستوى التحدي لكي تكون لها الغلبة في المستقبل. ويكون الوعي سيد أسلحة المواجهة، فلا تخضع ولا تنكسر أمام كل الرياح من أي جهة هبَّت، بل وتصون حجابها عزيزاً ثابتاً في مواجهة رياح العنف "الحضاري" المتبرج الذي سينحرف به عن مساره الشرعي، دون إلغاء الأنوثة التي يحق لها أن تتجلَّى في البيت "وقرن في بيوتكن" والآية لا تعني الانزواء بعيداً عن العلم والعمل بل تعني تحرك الأنثى في داخل منزلها ويكون المجتمع ساحة مفتوحة لإنسانيتها المحجَّبة عن الفساد بخمار العقل والدين ونقاب الفضيلة والعفة. أما الغزو الأميركي للعراق والمنطقة فلا يخيفني أبداً على مستقبل الحجاب، فكلما ازدادوا طغياناً وفساداً وفحشاً (أبو غريب وغوانتانامو) ازدادت أعداد السائرين على هدي اللَّه المتمسكين بحبل اللَّه الممدود رحمةً والمعتصمات بحجاب اللَّه الممتد من السماوات العلى...
إني مطمئنة تماماً أن الإسلام سيكون له دور ريادي عالمي لإنقاذ المرأة مما هي فيه اليوم محيطاً بها وليس بالضرورة نابعاً منها، وإنقاذاً للمجتمع من حالات بعيدة عن الأجواء الإنسانية والحس الإنساني السليم. وسينكفئ الغزاة أمام صلابة إيماننا بضرورة المواجهة وحتميتها حرصاً على قداسة المرأة الإنسانة حتى ولو قادتها هذه المواجهة إلى ضفاف الشهادة، فالحجاب هذا القانون الإلهي قضية كالوطن يستحق أن نستشهد لأجله، لتكون كما أراد اللَّه العزة للَّه ولرسوله وللمؤمنين وللنساء المحجبات المتدينات... أيضاً. لم يكن هذا كلَّ ما احتواه الشريط المسجل فالحوار تشعب وفقاً لتشعب قضايا الحجاب الإسلامي المعاصر ووفقاً لعمق التجربة التي خاضتها الأستاذة الحاجة عفاف الحكيم مع أجيالٍ تفخر بالتتلمذ على إخلاص مبادئها وعملها الدؤوب لنشر ثقافة الحجاب وتثبيته في القلب إيماناً وفي الكيان عقلاً وسلوكاً وفوق الرأس غطاءً عزيزاً لا يلفه والكتفين فحسب بل والكيان الإنساني للمرأة بمهابات قيم الشريعة السمحاء فإذا كل محجبةٍ في خطاها شموخ زينب عليها السلام وفي مواجهتها للطغاة سفوراً عاصياً قوة فاطمة عليها السلام لأن الحجاب لم يكن يوماً ظاهرةً تنطفئ ما ارتبطت به إنه فريضة خالدة كما الصلاة ترتبط باللَّه واللَّه حيٌّ لا يموت.
إنها قارب النجاة الذي ينتظرنا على مرافئ النهايات السعيدة حيث البدايات الكريمة مع رضوان اللَّه ولن تتخلى امرأة عن قارب نجاتها ولا عن شراع الأمان لرحلتها طالت أم قصرت، المهم سلامة الوصول بعد المسير بكرامةٍ إلى حيث يرضى اللَّه.