د. محمد رضا فضل اللَّه(*)
يمضي التلميذ سنة دراسية يعيش خلالها نظاماً يتسم بالجدية والانضباطية والقيود التي تحرمه اللهو الذي يرغب به والحرية التي ينشد. ففي كل يوم ينهض باكراً، ليلتحق بالمدرسة، ويتلقى موضوعات تعليمية متنوعة، يتطلب كل واحد منها تركيزاً وجدّاً وسهراً عندما يعود مساء إلى بيته، وفي الأثناء تتواصل اختبارات السعي والفصل، ليقدم جردة حساب إلى معلميه وأهله، حيث تظهر لديه مواطن القوة ومواقع الضعف. وتتوالى الأيام العصيبة، وينتهي العام الدراسي بعطلة صيفية ينتظرها التلميذ بفارغ صبر من أجل أن يتخفف من عبء الدروس، ويتحلل من ثقل المسؤوليات، وفي الوقت ذاته يمارس هواياته المفضلة بحرية وانطلاق دون قيود وضوابط. وهنا تطرح الأسئلة التالية:
هل تترك للولد حرية التصرف لوقتٍ قد يمتد لثلاثة أشهر، دون أن يكون هناك بعض التواصل بين ما تلقاه فيما مضى، وما سيصادفه في عام مقبل؟
هناك بعض الأولاد ممن كانوا يعانون من تأخر دراسي، أو ضعف في بعض المواد التعليمية، هل نترك علاج ذلك للدوام المدرسي فقط؟
هل يُسمح للأهل والمربين بالتدخل في ملء فراغات في موضوعات يرونها ضرورية لتنمية بعض الجوانب الدراسية في شخصيته؟
* عطلة صيفية متوازنة
في إطار مقاربة هذه الأسئلة، تتوزع الأجوبة انطلاقاً من فهم خاص لأوضاع الولد وظروفه وحاجاته ومتطلبات مستقبله:
يعتقد البعض أن العطلة الصيفية ضرورية لتوازن الوضع النفسي للولد، فبعد عام دراسي مرهق جسدياً وانفعالياً وعقلياً يحتاج التلميذ إلى فرصة لتجديد نشاطه من خلال التحلل من القيود القانونية، ليمارس الأفعال التي تحلو له، ويرغب في ممارستها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك خوف من أن ينعكس ذلك كراهية لكل ما يتعلق بالجو المدرسي فيما لو حاولنا إرهاقه بالتزامات وضوابط حازمة. أما البعض الآخر فيرى أن العطلة الصيفية بأيامها الطويلة، ينبغي أن تنظم بالشكل الذي يُمكَّن فيه الولد من ممارسة هواياته والاستجابة لميوله الخاصة، ولكن في الوقت ذاته يحاول أن يستغلها لتنمية بعض القدرات والمهارات والنشاطات التي لا تسمح الضغوط الدراسية من التفرغ الجدي لها ومنها: تعميق الثقافة المعرفية (العلمية، الأدبية، السياسية...)، من خلال المطالعة الحرة، وحضور الندوات والمحاضرات وغيرها. تغذية الجوانب الروحية في شخصيته، من خلال معايشة الأجواء العبادية، ومواكبة النشاطات الدينية التي توثق علاقته باللَّه تعالى وكتبه ورسله وكل ما يتصل به. معالجة حالات التأخر المدرسي عند البعض والتي تحددها النتائج النهائية في موضوعات تعليمية محددة، وذلك من خلال تمارين دعم تعتبر ضرورية لاستقبال عام دراسي جديد دون مشاكل.
أمام هذا التباين في وجهات النظر، فإننا لا نستطيع أن نفرض برنامجاً موّحداً ينسحب على أوضاع جميع التلاميذ، الذين يختلفون في انتماءاتهم البيئية، وقدراتهم الذهنية، وهواياتهم المهارية، ونتائجهم المدرسية، وأصالتهم الروحية، وميولهم واتجاهاتهم المهنية والاجتماعية. ومن خلال فهمنا لحاجات هؤلاء وظروف حياتهم نجتهد، وبمنطق المحبة والحوار، في أن نساعدهم على أن يختاروا لأنفسهم برنامجاً مرناً يوازن ما بين الراحة والاسترخاء وما بين الاستجابة لمتطلبات النمو والتطور، فالولد المتفوق الحاد الذكاء يختلف برنامجه عن ذلك الذي يعاني من مشاكل تعلّمية، وهكذا بالنسبة للحالات الأخرى. خلاصة القول: إن الجميع يعتبر أن بعض الصيف ضرورة لأن يتخفف التلميذ من الالتزامات المرهقة، ليجدد نشاطه ويمارس هواياته المشروعة، وينطلق مع الأهل والرفاق في رحلات واستطلاعات ونشاطات. ولكن بشرط أن لا يستغرق ذلك كل وقته. فعلى الولد مهما كانت الظروف، أن لا يتعود على البطالة غير المنتجة، لأن الخوف هو أن تتحول هذه البطالة إلى عادة متجذرة قد تنسحب على كل حياته المستقبلية، فتخف حماسته لكل ما يتعلق بشؤون المدرسة وشجونها. بالإضافة إلى أن الفراغ والتحلل من المسؤوليات من شأنهما دفع الولد إلى الانفتاح على أجواء اجتماعية وإعلامية بعيدة عن القيم، فيكتسب من الرفاق أو وسائل العبث واللهو ما يستجيب لنزواته ورغباته، لذا كانت الحاجة إلى بعض التدخل في التخطيط لبرنامج يسمح له بتنظيم أوقاته بما يسر وينفع.
* نشاطات صيفية
على هذا الأساس، كانت المبادرة من مؤسسات تربوية وتعليمية وكشفية ورياضية إلى تحضير نشاطات مفيدة ومسلية يأخذ منها الولد بعفوية كل ما يحتاجه ويرغبه:
فالمدارس ومن خلال خطتها التربوية ، لجأت إلى تزويد التلاميذ، بما يسمى حصاد الصيف أو زاد الصيف، بتمارين تذكيرية خفيفة، لا يتطلب عملها جهداً كبيراً، بحيث يبقون على تواصل مع المفاهيم التي اكتسبوها في عامهم الماضي والتي تساهم في دخولهم العام المقبل وهم أكثر قدرة وتكيّفاً. والمؤسسات التربوية الأخرى، بادرت أيضاً إلى التحضير لمخيمات ترفيهية، تتضمن برامجها نشاطات رياضية وكشفية وغيرها، بالإضافة إلى خلق أجواء إيمانية وتثقيفية وأخلاقية وسلوكية تحفظ التوازن في شخصياتهم، فيجددون نشاطهم من جهة، ويغنون عقولهم ووجدانهم وسلوكهم بكل ما يثقف ويهذّب ويطور من جهة أخرى. وهنا تكمن مسؤولية المدرسة وبالتالي الأهل في إثارة قناعة الأولاد في الانتماء إلى مجتمعات صيفية نظيفة ومفيدة ومسلية، على أن يصاحب ذلك رقابة من بعيد للوقوف في وجه كل ما يفسد ويؤدي إلى الانحراف. إننا في الوقت الذي لا نريد من العطلة الصيفية أن تتحول إلى مدرسة (كما يعمد بعض الأهل إلى إلحاق أولادهم بمدارس للتخلص من شغبهم)، ولكننا في الوقت ذاته نعتبرها فرصة ثمينة للبعض الذين يحملون ضعفاً موروثاً، وللبعض الآخر الذين يجب أن يستزيدوا معرفياً ودينياً، ليكون طلب المعرفة خلقاً أصيلاً في وجدانهم.
(*)مدير دائرة الاشراف التربوي في مدارس المصطفى صلى الله عليه وآله