الشيخ حسين كوراني
جاء في وصيته عليه الرحمة والرضوان:
"أوصي الشعوب الشريفة المظلومة والشعب الإيراني العزيز... إلى قوله: أن لا يغفلوا أبداً عن مراسم عزاء الأئمة الأطهار وخصوصاً سيد المظلومين ورائد الشهداء أبا عبد الله الحسين "صلوات الله الوافرة وصلوات أنبياء الله وملائكته والصالحين على روحه العظيمة المقدامة". وليعلموا أن كل أوامر الأئمة عليهم السلام في مجال إحياء ملحمة الإسلام التاريخية هذه، وأن كل اللعن لظالمي آل البيت والتنديد بهم ليس إلا صرخة الشعوب في وجه الحكام الظالمين عبر التاريخ وإلى الأبد، وتعلمون أن لعن بني أمية "لعنة الله عليهم" ورفع الصوت باستنكار ظلمهم مع أنهم انقرضوا وولّوا إلى جهنم هو صرخة ضد الظالمين في العالم، وإبقاء لهذه الصرخة المحطِّمة للظلم نابضةً بالحياة.
* ومن اللازم أن تتضمن اللطميات، وأشعار الرثاء، وأشعار المديح لأئمة الحق "عليهم سلام الله" التذكير وبصورة مدوّية بالفجائع ومظالم الظالمين في كل عصر ومصر.
* وفي هذا العصر، عصر مظلومية العالم الإسلامي على يد أمريكا وروسيا وسائر المرتبطين بهم "لعنة الله وملائكته ورسله عليهم"، فإن من اللازم التذكير بذلك ولعنهم والتنديد بهم بصورة مدوّية.
* ويجب أن نعلم جميعاً أن ما يوجب الوحدة بين المسلمين، هو هذه المراسم السياسية التي تحفظ هوية المسلمين. خصوصاً شيعة الأئمة الإثني عشر "عليهم صلوات الله وسلامه".
* ومن اللازم أن أذكّر بأن وصيتي السياسية الإلهية لا تختص بالشعب الإيراني العظيم الشأن، بل هي توصية لجميع الشعوب الإسلامية ومظلومي العالم من أي شعب ودين.
يستوقف المتأمل في هذا النص الآتي:
أولاً: أن القيمة الأم التي ينظر الإمام إلى عاشوراء من خلالها، هي "صرخة الشعوب في وجه الحكام الظالمين عبر التاريخ وإلى الأبد" وسنجد بالتفصيل الوافي كيف أكد الإمام على هذه القيمة، بما لا مزيد عليه.
ثانياً: أنه يقرن بين إقامة مجالس العزاء كمظهر للولاية، وبين اللعن كمظهر للبراءة. وحديث اللعن حديث نقطة مفصلية في مسار الحوار حول مجالس العزاء، حيث يصعب على الكثيرين فهم معادلة الجمع بين اللعن من جهة والحداثة من جهة أخرى، إنطلاقاً من أن أساس الحداثة الخروج من قمقم الإنغلاق إلى آفاق الإنفتاح الرحيبة، الذي يؤسس لإمكانية التعامل مع الآخر. أوليس اللعن تكثيفاً لرفض الرأي الآخر، ونسف كل خطوط التواصل والإلتقاء، وبالتالي تفجير كل جسور الحوار، والتموضعُ في النقطة التي لا يمكن حتى التفكير بمغادرتها؟
ثالثاً: أن هذه المجالس تحفظ وحدة المسلمين بل هي التي توجب الوحدة بين المسلمين، وتحفظ هويتهم. فكيف يمكن الجمع بين حديث اللعن وحديث الوحدة الإسلامية؟
رابعاً: التأكيد على المراثي والمدائح واللطميات، وهو ما يشعر بما سيأتي تأكيده عليه، من ضرورة المحافظة على الطريقة التقليدية التي كانت مجالس العزاء وما تزال تقام بها.
خامساً: أن تكون مجالس العزاء في خط المواجهة الصريحة لكل ظلم يمارسه الطواغيت الكبار أو الصغار.
وسأكتفي هنا بالإشارة إلى أن اللعن والبراءة من مستلزمات اكتمال الحب وتمام بدر المبدئية وصدق الإنتماء، وليسا إطلاقاً ظاهرة منفصلة عن الحب واللطف والحنان، أو الإستقامة والورع واليقين، ويوضح ذلك بيسر أن حب الصدق يتوقف على كراهية الكذب، ولن يكون محباً للصدق بأجلى الصور من لا ينسف كل شائبة اتصال بينه وبين الكذب. وسأترك الوقوف عند المعالم الأخرى التي ينبغي الوقوف عندها للتوضيح، إلى فرصة يؤمل أن تتاح، مقتصراً على الجولة في نصوص الإمام التي تجعلنا أمام رؤيته العاشورائية وجهاً لوجه، مما يسهّل التوافق على النتائج.
* نقطة البداية، حرية مجالس العزاء:
عام 1961 للميلاد، في بداية انطلاقته، يؤكد الإمام على أهمية حرية التجمعات الدينية ومجالس العزاء، فيقول:
"في هذه البلاد، جميع الفرق تدعو إلى معتقداتها وضد الإسلام علناً، وهم أحرار في ذلك لهم مجالسهم العلنية، للمسيحيين إذاعة في كنيستهم في طهران، ولهم مؤسسة في كرمانشاه، ولهم مدارسهم الرسمية ويستفيدون من دعم الدولة وتسهيلاتها، وهم أحرار في نشر كتبهم المضادة للإسلام. المسلمون فقط، والمبلّغون الدينيون وعلماء الإسلام ليسوا أحراراً. التبليغ الديني وتبيان مخالفات (الشاه) والدولة للقانون سمي عندهم رجعية سوداء، والمحافل أصبحت ممنوعة.
تحتاج التجمعات والمحافل الدينية إلى إجازة الشرطة. مواكب العزاء على سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام يجب عندهم أن تكون محدودة وممنوعة". يؤسس الإمام بذلك لحرية مواكب سيد الشهداء، باعتبارها المناخ الطبيعي لنمو بذرة الثورة ضد الظلم والإنحراف، كما في الفقرات المتقدمة من وصيته، وينسجم هذا التأسيس مع قناعته بأن على أي شعب يريد أن يكسر طوق الكفر، أن يبدأ من هذه النقطة بالذات "مجالس العزاء" فلا ثورة على الظلم بدونها، ولا روح شهادة وتضحية بمعزل عنها. إنها الساحة الوحيدة على سطح الأرض التي يتواصل فيها العمل التعبوي، من خلال تقديم دروس التضحية والفداء في المساجد والحسينيات والبيوت أيضاً. وفي نص آخر حول ذلك يقول: أشعر بالأسف لسلوك الأجهزة اتجاه مجالس تبليغ الأحكام، والعزاء على سيد المظلومين عليه الصلاة والسلام. كل من تحدث عن الظلم والظالم بشكل عام، هو الآن في السجن أو بقي فيه لفترة طويلة. كل المجالس تتعرض للمضايقات، والقائمون عليها في ضنك لا يحتمل. الأشخاص المتدينون تم الإلقاء بهم في السجون، بجرم أنهم في عاشوراء شكلوا مواكب ورفعوا شعاراً ضد إسرائيل، وما زالوا إلى الآن في السجن. ويلاحظ هنا كيف جمع الإمام بين مواكب عاشوراء ورفع الشعار ضد إسرائيل، وهو يلتقي مع ما تقدم من أن عاشوراء "صرخة الشعوب في وجه الحكام الظالمين عبر التاريخ وإلى الأبد".
* في ثياب الواعظين:
قد يلجأ الحاكم الظالم إلى محاولة استغلال مجالس العزاء أو المجالس الدينية عموماً وعلى الشعوب أن تحذر من ذلك. يتحدث الإمام عن محاولات "رضا شاه" التظاهر بحب مجالس العزاء والحرص عليها، فيقول: عندما جاء رضا خان إلى الحكم جاء بانقلاب وسيطر على طهران ".." أوائل أمره، وأتذكر ذلك ".." كان يظهر التدين كثيراً "..". في ليالي شهر محرم كان ينتقل من مكان إلى مكان ليشارك في مراسم العزاء، وأحياناً كما قيل كان يخرج حافي القدمين، لقد ذهب إلى كل هذه المواكب التي كانت في طهران وكان يتحدث مع صاحب الموكب ويظهر "إسلاميته وإيمانه"، إلى أن استتب له الأمر بعض الشيء عندها لجأ إلى اعتماد الحربة (والقمع). يشير ما تقدم إلى مرتكز محوري في خطاب الإمام حول عاشوراء هو قوله الذي اشتهر عنه "كل ما عندنا من عاشوراء"، كما يشير إلى مرتكز آخر في خطابه الديني عموماً، يتلخص في أن الأعداء يعرفون سر قوتنا ولذلك فهم يلجأون إلى الإلتفاف، ثم التشويه، ليتم تجريد الأمة من أمضى أسلحتها.
* تخريب، تحت غطاء الحرية:
وقد يلجأ النظام الحاكم إلى التظاهر بحرية مجالس العزاء، والمجالس الدينية عموماً، ثم يخطط لتخريبها ونسفها عن طريق العناصر المندسة التي تفتعل الفتنة داخل هذه المجالس أو المواكب. ينبه الإمام إلى ذلك في ذروة الثورة عام 1978م على أبواب الإستعداد لمظاهرات تاسوعاء وعاشوراء، التي كانت أكبر تجمّع تشهده إيران حتى تلك الأيام، وأكبر استفتاء على شكل الحكم الذي يريده الشعب الإيراني.