الشيخ يوسف سرور
بعد الحرب العالمية الأولى، مرت سبعة عقود كانت زاخرة بالأحداث والتطورات الكبرى، حيث أرخت بأثقالها وتأثيراتها على كل زوايا الكرة الأرضية، ومن ضمنها عالمنا الإسلامي. من انتصار الثورة الشيوعية في روسيا، إلى سيطرة فرنسا وإنكلترا على العالمين العربي والإسلامي، وتقسيمهما عبر اتفاقية سايكس بيكو، إلى وعد بلفور اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، إلى نشوء الدويلات العربية والإسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية، إلى الحرب العالمية الثانية ونشوء المعسكريين الشرقي والغربي، إلى الحرب الباردة التي نشبت بين هذين القطبين والتي لم تنتهِ إلا بسقوط الكتلة الشرقية برمتها، وصولاً إلى انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني المقدس.
هذه الأحداث أرخت بظلالها على الأجيال والشباب، على العقول والنخب المثقفة، وعلى الحياة العامة في منطقنا. تسرّبت المعتقدات الباطلة، والأفكار المنحرفة، والثقافات المضلِّلة إلى مجتمعنا، وهيمنت على قطاعات واسعة من أبناء جلدتنا، وظهرت التيارات اليسارية واليمينية، وسيطر الفكر المستورد على ساحتنا، بشكل بات يشكل العصب الحيوي للحراك الفكري والثقافي الذي يجرف الأجيال إلى مستنقعات الرذيلة والولاءات البديلة عن الإسلام. في ظل هذا الواقع كان هناك عالم في مقتبل عمره نشأ في أكناف الحوزة العلمية المقدسة، نهل من علومها جمّاً، واغترف من معينها عبّاً، حتى صار من ألمع علماء الحوزة ويشار إليه بالبنان. كان هذا الرجل ينظر بحسرة وغصّة إلى الشباب والأجيال، ويتملكه القلق والاضطراب على واقع الأمة ومستقبلها. فقرر أن يشمّر عن ساعد الجد، وينزل إلى ساحة النزال الفكري والثقافي، متسلحاً بأدوات العلم والوعي، وشاحذاً أسلحة المنطق السليم والانفتاح على مختلف الأفكار، والموضوعية في الطرح والمناقشة، وإنصاف الرأي الآخر حيث يقتضي التقييم. ففي مواجهة الأيديولوجيات المختلفة والتيارات الفكرية التي راجت في ذلك الوقت، كتب "فلسفتنا"، الذي رد فيه على الديالكتيك من هيغل حتى أيامنا هذه، مفنداً ومبطلاً لهذه الفلسفة التي راجت وهيمنت على حقبة واسعة من القرون الأخيرة، حتى قضى على استدلالاتها وبراهينها وأغاليطها.
ورد أيضاً على غيرها من الفلسفات والأفكار التي كان لها نصيب من الحضور في ساحة الفكر والثقافة. وفي نفس الوقت عمل على تثبيت الفكر الإسلامي من منظار فلسفي، بصورة بهية مترابطة، وسياق متين لا يقبل المناقشة، ولا تصمد أمامه كل الردود. وفي مواجهة المذاهب الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية، كتب "اقتصادنا" الذي يُعد مفخرة المكتبة الإسلامية، ودرة التاج في الفكر الاقتصادي في هذا العصر، حيث بيّن الضعف والوهن المعشش في هذه النظريات، والتي تجنح في حقوق الأفراد والمُلكية بين مفرّط بحق الأفراد إلى حدود الإعدام، وبين مفرِط في ذلك إلى حدّ التكريس والهيمنة، وأظهر الحدّ الوسط في ذلك، الذي بيّنه الإسلام وأثبتته الشريعة في شكل يكرس الحقوق الفردية وملكية الدولة أو الحق العام بصورة بديعة تبعث على الاعتزاز. وفي ذلك يكون قد أجاب على كافة التساؤلات المطروحة في وجه الدين وقدرته على سدّ متطلبات العصر ومفاعيل التطور على الدوام. وفي مقابل المنظومات المعرفية المختلفة، ونظرياتها المتعددة، والتي تعتبر الأرضيات الفكرية والبنى التحتية لكافة الايديولوجيات كتب "الأسس المنطقية للاستقراء"، مفنداً ما كان قد حكم في هذا المجال واضعاً الأسس الصحيحة، مثبتاً القواعد القوية بشكل لا يقبل الجدل. وعند انتصار الثورة الإسلامية كردّ عملي للمسلمين على كل أشكال الحكم والمنظومات الفكرية قام ببث رسالته الشهيرة التي بايع فيها ولي المسلمين وقائدهم الإمام الخميني المقدس، داعياً المسلمين إلى الذوبان في هذا الإمام الملهم كما ذاب هو في الإسلام. وقرر هو أن يخطو في طريقه هذا كل الخطوات التي توصله إلى غايته، غير آبهٍ بالمخاطر المحدقة، حتى دفع حياته الكريمة ثمناً لهذا الولاء الناصع، فقتل على يد طاغية العصر في العراق. الشهيد السيد محمد باقر الصدر، السلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.