الشيخ حسن الهادي
لقد شغَلَت آياتُ الجهادِ والقتال حيّزاً كبيراً في القرآن الكريم يكاد يبلغ نصفه المدني، وفي هذا دلالة صريحة على أهميّة الجهاد وموقعه في الشريعة الإسلامية، وحاجة المجتمع والدولة الإسلامية إليه كأحد أهم عناصر القوّة التي تؤمِّن حماية البلاد والعباد، ولهذا عندما نستقرئ تاريخ المرحلة المدنيّة من الدعوة الإسلامية نجد أنّ النبي صلى الله عليه وآله قد شكّل قوّةً عسكرية تحوّلت بسرعة إلى جيشٍ قويٍّ يدافع عن المسلمين وعقيدتهم داخل وخارج المدينة المنوّرة، بل ساهم في تبديد قوى الشرك والكفر في الكثير من مواقعها كتمهيد لدعوة الناس إلى الإسلام وإنقاذهم من براثن الشرك والكفر، ويكفي أن نعرف أن عدد الغزوات التي قادها النبي صلى الله عليه وآله بنفسه بلغ سبعاً وعشرين (سيرة ابن هشام ج4، ص486)، وأن عدد السرايا التي أرسلها بقيادة أمير المؤمنين عليه السلام وبعض صحابته تزيد عن الثلاثين على أقلّ الروايات؛ وأن الوحي لم يغب عن السيرة العملية في القتال والحرب والتي أقرّها أو فعلها النبي صلى الله عليه وآله نفسه، لندرك ماهيّة الجهاد وأبعاده الإنسانية والإجتماعية، ونعرف شخصية مربي المجاهدين رسول الله محمد صلى الله عليه وآله.
* المدخل لفهم الشخصية الجهادية للنبي صلى الله عليه وآله
آيات الجهاد والقتال التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله بالخطاب المباشر لشخصه كقائد، أو بذكر مشروعيّة الحرب والقتال للدفاع عن الإسلام، إضافة لضوابطها وكليّاتها وتفاصيلها أحياناً؛ أوضحت بطريقة أو بأخرى المنظومة الجهادية في الإسلام التي ترتكز على مبادئ عدّة منسجمة مع الأصول الفكرية والعقائدية للإسلام، فضلاً عن قيمه وأخلاقه، وأهم هذه المبادئ إلى البنية الدفاعية التي تعتبر حقاً طبيعياً أقرّته الشرائع السماوية، كما القوانين الوضعية تضييق بل إلغاء دائرة الإستفادة من القتال والحرب للمصالح الشخصية والقبلية ونحوها، وتوسعة دائرة الاستفادة منها في المصالح العامة والدفاع عن حرمة وكرامة المجتمع والأمة والدين. وهذا ما يكسبها الشرعية، والقداسة، والارتباط المباشر بالله تعالى، وهكذا نفهم بوضوح دلالات القيادة المباشرة لرسول الله صلى الله عليه وآله لهذا العدد الكبير من المعارك والغزوات على المستويين التشريعي والتربوي. ولهذا عندما نريد أن ندرس الشخصية الجهادية للنبي صلى الله عليه وآله في القرآن الكريم، لا نستطيع فصل البحث عن الرؤية الشاملة التي قدّمتها الآيات الكريمة حول الجهاد والقتال والحرب بالخطاب المباشر لرسول الله صلى الله عليه وآله تارة، وتوجيه المسلمين وتشريع تفاصيل الحرب وحثّهم عليها تارة أخرى، وبنقل أخبار الماضين في الحرب ثالثة... ولهذا فالقراءة الموضوعية لآيات الجهاد والقتال في القرآن تعتبر المدخل العلمي الطبيعي لفهم وتسليط الضوء على الشخصية الجهادية للنبي صلى الله عليه وآله ليس بوصفه قائداً عسكرياً أو ميدانياً فحسب، بل بوصفه أميناً لوحي الله في هذا المجال، ومبيّناً ومشرّعاً لجملة هامة من الأمور المتعلّقة بالحرب على مستوى الأصول والتفاصيل والنتائج.
* آيات الجهاد والقتال في القرآن الكريم:
يمكن لنا تصنيف الآيات موضوعياً إلى ثلاث طوائف، طائفة تتحدث عن الإعداد الإيماني والبنيوي للجهاد والقتال والإقدام عليه، وتهيئة المسلمين لما يمكن أن يصابوا به من خسائر وآلام، والتي تحتاج إلى الصبر والتحمّل والتوكل على الله في السرّاء والضرّاء، وتحدثت طائفة ثانية عن الإجراءات الجهادية على اختلاف تفاصيلها، بينما ركّزت طائفة ثالثة على الوقائع الجهادية التي حصلت في عهد رسول الله صلى الل عليه وآله والمدد الغيبي المباشر أحياناً أو المرتكز على الإيمان والتوكّل أحياناً أخرى. ونظراً لكثرة وتنوّع الآيات في كل طائفة من هذه الطوائف سنكتفي بالإشارة إلى نماذج مختصرة منها نوجزها بالنقاط التالية: الإذن الإلهي بالقتال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج، 39)، ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة، 191). تفضيل المجاهدين على غيرهم: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيمًا﴾ (النساء، 95). تحديد هدف ووجهة القتال: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾(النساء، 76). أهمية الثبات والصبر في الحرب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾ (الأنفال، 45 46). وجوب الإعداد والاستعداد: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال، 60). تحديد الأعداء والحثّ على عدم موالاتهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة، 23)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة، 51). حدود قتال العدو: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ...﴾ (البقرة، 190 191) ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة، 193).
المدّد الإلهي في بدر ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون﴾ (آل عمران، 123). التدخّل الإلهي لنصر المؤمنين: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال، 17 18). الطاعة والصبر من ضرورات النصر: ﴿وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال، 46،﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران، 125 126). تسلية المجاهدين حتى عند الهزيمة: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران 140). الشهداء أحياء لا أموات: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169). فلقد رَسَمَت هذه الآيات وغيرها معالم الجهاد وفلسفته في الشريعة الإسلامية، بالتأكيد على ثوابت وأصول القتال والحرب في الإسلام، التي ترتبط تارة بنفس الحرب لجهة أخذ الإذن بالقتال وتحديد العدو وكيفية مواجهته، وترتبط تارة أخرى بالمجاهدين أنفسهم لجهة البنية الإيمانية والصبر والتوكّل والاستعداد النفسي والجسدي للحرب، وثالثة بنتائج الحرب وهي النصر أو الشهادة، وفي الحالتين يفوز المجاهد. كل هذا محكوم بأصلين ثابتين هما:
1 - المدد الإلهي الذي لا يغيب عن المجاهدين حتى وهم مخضّبون بدم الشهادة.
2- القيادة الحكيمة للمجاهد الأوّل في الإسلام رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، الذي تحدّث القرآن والتاريخ عن مشاركته في مختلف أنواع الجهاد، بما في ذلك حضوره وقيادته للكثير من المعارك، وهو الذي بنى مدرسة الجهاد والمجاهدين في الإسلام على المستويين التشريعي والعملي، وبمختلف مفاصلها ومستوياتها
ولهذا فعندما نفهم بدقة فلسفة الجهاد والقتال في القرآن الكريم تتّضح الشخصية الجهادية لرسول الله صلى الله عليه وآله، كما اتّضحت وتجلّت شخصيته ودوره في جوانب الشريعة المختلفة.