هادي قبيسي
كنا نحمل على ظهورنا حقائب مثقلة بمعلبات السردين وشرائح سمك تونة وماءاً يكفينا أسبوعاً لأقصى حد، تقدمنا تلك الليلة المطيرة على طول الوديان المتواصلة مخلفين آثار أقدامنا في الأرض الموحلة فالمطر سيمحوها بهطوله المتواصل. تداعت أنوار الفجر الخافتة ولما نصل، فبحثنا، وسط بقايا الظلام، عن شجيرات نستتر تحتها بانتظار المساء التالي. قبعنا ذاك النهار في ظل شجرة كثيفة الغصون نابتة وسط سلسلة من الصخور الناتئة في الأرض.
وصلنا منتصف الليل ومكثنا تحت شجيرات واطئة، وكانت العبوات، على شكل صخور، موجهةً نحو خط القعر، حيث يمتد طريق قدم ضيق بين جبوب البلان. مرت خمسة أيام من المطر المتواصل وصفير الرياح عبر الوادي، ظللنا تحت الشجيرات لم نتحرك، ولم آكل غير مرتين في اليوم، قليلاً من السردين أو التونة وشربة ماء، منصتاً طوال الليل والنهار لأيما قرقعة سلاح أو وقع أقدام يتسلل من وراء ضجة المطر.. دون نوم ظللنا ننتظر ودون جدوى. وكانت ثمة أسراب صغيرة من طيور الدوري الجريئة تتنقل تحت المطر، وعلى الدوام ظلت الأرض باردة موحلة، وفي الصباح كنت ترى المياه تتجمع في السواقي وتنحدر نحو القعر حيث يتكون نهر صغير، وفي اليوم الرابع مرت ساقية من حيث كنت أجلس فأبصرت أوراق الأشجار وحبات البلوط المنتفخة والحصى تنحدر مع مسيل الماء، وخلال الليالي، وعندما تنعدم الرؤية، كان باستطاعتك أن تنصت لقطرات المطر وهي تقرقر في السواقي، وعند اليوم الخامس فقدت بدلة النايلون مفعولها وتبللت ملابسي وأصبحت، شيئاً فشيئاً، ثقيلة الوزن. قررنا الرحيل عند المساء الخامس، وضعت المفجر في جعبتي، وحملت سلاحي ووزعت بعض الأوراق في مكاني، وقفت بجانب الشجيرة وحركت يدي وقدمي معيداً لها بعض الليونة وخلعت بدلة النايلون بعجل ووضعتها في حقيبة الظهر، ولحقت برفاقي محاذراً من دحرجة الحصى عند مسيل ماء، وأمامي بدت مشيتهم متعبة ثقيلة.. وكانت رائحة الأرض الرطبة ضائعة مع نسيم المساء البارد. حثثت السير لألحق الرفاق الذين دلفوا خلف التلة وكان المطر قد عاد ينث خفيفاً، وهبت الرياح الباردة عاصفةً صافرة في ثنايا الشجر، فيما جعلت أسارع الخطو كيما أنال بعض الدفء. كان الرفاق يتقدمون بخطى وئيدة على الأرض الموحلة.. إن أمراً ما سيحدث، ربما نصادف كميناً.. غير أننا قطعنا هذا الطريق منذ أيام.. لن يحصل شيء.. لن تكون سوى محاولة غير موفقة.
بين الأشجار غدت الظلمة دامسة، وقد انقشعت العتمة بعض الشيء حين وصلنا منطقة جرداء، فأبصرت بقايا آثار أقدام. لعلها آثار أقدامنا لم يمحها المطر.. لكن ثمة آثاراً تتجه نحو اليسار باتجاه طريقٍ آخر، ربما لم يلتفت الرفاق لذلك.. وأضاء الوادي قدامي وميض انفجار مدوٍ وانهمر الرصاص الغزير من التلة المحاذية يرافق ذلك انفجار قنابل متواصل، واختلط صوت نيران الرفاق بنيران العدو التي فاقت كثافتها كل تصور، كانوا خمسين جندياً على الأقل.. ستكون معركة رهيبة.. هرعت أقتفي، وسط الظلام، آثار الأقدام الغريبة، ثم أهملتها بعد أن زاغت عيناي ورحت أعدو باتجاه التلة حيث تجمع جنود العدو وحثثت السير إلى أن صرت بموازاتهم فأبصرت أمامي، على بعد عشرة أمتار، ومن بين الأشجار المتراصة، شرارات رشاشاتهم الأوتوماتيكية التي كانت لا تزال تصب نيرانها نحو الوادي، أخذت من جعبتي ثلاثة قنابل يدوية، سحبت حلقة الأولى ثم الثانية والثالثة، ورميتها باتجاههم، ودوت انفجاراتها وسط تجمع الجنود مثيرة الفوضى والصخب، وتقدمت نحو صخرة كبيرة وأطلقت النار من ورائها، فانصب جام نيرانهم نحوي، أخذت القنبلة الأخيرة ورميتها، فسمعت بعد انفجارها صراخاً عالياً واستغاثات، وخفت اطلاق النار باتجاهي فتركت مكاني نحو شجرة عريضة الجذع.. هه، لعلهم لم يروني بعد.. سأتقدم نحوهم حتى أرى أحداً منهم.. وسمعت صفير القذائف قبل أن تنير الوادي بدويٍ صاخب وتبعها صوت الطائرات القاذفة التي دنت وأغارت على الوادي بصواريخها فارتجت الأرض من انفجارها، ثم عادت وغادرت السماء.. وسمعت صوت وقع أقدام قريب، وضعت إصبعي على الزناد وجثوت على ركبتي، ازداد الصوت قرباً حتى سمعت حفيف ملابسهم بالأغصان.. نظرت للخلف فلم أر أحداً، ثم التفتُّ فرأيت جنديين يقفان قدام الصخرة التي كنت خلفها وقد بدا على وجه أحدهما المنظار الليلي أمام بياض الصخرة وسط الظلام، فعاجلتهما بإطلاق النار وأفرغت مخزن الرصاص في جسديهما ثم أبدلته، وعدوت باتجاه الوادي، وكان صوت الإستغاثات لا يزال مسموعاً وصداه يتردد بين التلال.
كان القعر مليئاً ببقايا الصخور والأغصان التي كانت لا تزال النار تنبعث منها، وملأت المكان رائحة بارود غريبة.. لعلها رائحة صواريخ الطائرات.. أخذت اللاسلكي:
هيثم.. هيثم.. أجب... سامي.. سامي.. أجب... كررت النداء مراراً دون جدوى جواد.. جواد.. لم أجد الرفاق، وهناك أربعة قتلى صهاينة على الأقل.. سأهاجمهم مجدداً.. أجب. أين رفاقك؟ كنت بعيداً عنهم وتعرضوا لقصف شديد.. كان هدير المروحيات يدنو بسرعة.. الصهاينة قريبون مني أستطيع أن أهاجم لدي بعض الذخيرة. لا .. عليك أن تعود. لماذا؟..كان صراخ استغاثاتهم يرن في مسامعي.. عليك أن تعود.. لا تتكلم على اللاسلكي مجدداً.. عد مباشرة. كان المطر قد عاد يرسل تباشيره مع هبوب الرياح، وتحت الظلام عدت متثاقل الخطو نحو مجدل سلم، وفي المساء التالي عدنا لنستعيد الأجساد من ذلك القعر الدامي.