مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الحوافز وأثرها في دفع الإنسان لفعل الخير

الشيخ محمد حسن زراقط

 



لا بد في مطلع هذه المقالة من تعريف موضوع البحث وهو الحوافز، والتساؤل عن أثرها على سلوك الإنسان، وعن موقف الإسلام من الحوافز بأنواعها التي سوف يأتي الحديث عنها تباعاً.

* الحوافز وأنواعها:
الحفز في اللغة هو الحث والتحريض على فعل من الأفعال. يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب: "الحفز حثك الشي‏ء من خلفه، حفزه يحفزه حفزاً... وقوس حفوز: شديدة الحفز والدفع للسهم. وحفزه أي دفعه من خلفه يحفزه حفزاً..."(1) ثم يذكر لهذه الكلمة معانيَ أخرى لا تدخل في محل كلامنا. هذا في اللغة وأما بحسب الاصطلاح فإن هذه الكلمة صارت بعد تطور عدد من العلوم واحداً من المصطلحات المتداولة في علوم عدة مثل: الإدارة والتربية وعلم النفس وربما غيرها من العلوم الإنسانية الأخرى كالسياسة والاجتماع. ولن أستقصي موارد استخدام هذه الكلمة في العلوم وإنما أكتفي بنموذج يلقي الضوء على ما له صلة بما نحن بصدده، وسوف أختار علم الإدارة نموذجاً.

* الحوافز في المصطلح الإداري:
يهتم علم الإدارة بالحوافز نظراً إلى أن الهدف المطلوب لأي مؤسسة تجارية أو صناعية هو الحصول من العامل على أعلى درجات الإخلاص في العمل، وبذل أقصى حد ممكن من طاقاته وزيادة معدل إنتاجه. ولم يترك الباحثون في علم الإدارة وسيلة خطرت على بال أحدهم إلا وجربها ليستفيد منها في سبيل الوصول إلى هذا الهدف. يقول بعض الكتاب في علم الإدارة في تعريف الحافز: "بداية يجب التفريق بين الدافع إلى العمل وبين الحافز على العمل، الدافع شي‏ء ينبع من العنصر البشري، ويخلق ويثير لديه الرغبة في العمل...، أما الحافز فهو شي‏ء خارجي يجذب الفرد باعتباره وسيلة لإشباع حاجات إنسانية...؛ أي أن الحوافز هي مجموعة العوامل التي تعمل على إثارة كافة القوى الحركية في الفرد والتي تؤثر على سلوكه وتصرفاته..."(2).

ويقسم كاتب آخر الحوافز إلى نوعين سلبية وإيجابية، ويقصد من الإيجابية كل التقديمات والعطاءات المادية وغير المادية التي يمكن أن تقدم للعامل، والحوافز السلبية هي العقوبات التي تشرعها القوانين لضبط سلوك الأفراد(3). ويلاحظ في هذين المرجعين أن فكرة الحوافز لم يناقش أحد في تأثيرها، فإنه لا يشك أحد في كون الثواب الذي يعطى للعامل مؤثراً على سلوكه، سواء كان هذا التأثير سلبياً أم إيجابياً؛ ولذلك لا أسمح لنفسي بتضييع وقت القارئ العزيز في الحديث عن هذا الأمر وإنما نعتبره أمراً مسلماً نحتاج للبحث عما يدور حوله من أسئلة بدلاً من البحث عن تأثيره الذي يحس به كل منا إذا استفتى قلبه.

* الحوافز من وجهة نظر دينية:
لا يختلف اثنان من المؤمنين بالله في أنه سبحانه هو الأكثر خبرة بعباده، والأكثر حرصاً على سوقهم وحثهم على فعل الخير واجتناب المحرمات كبيرها وصغيرها، ولأجل هذه المعرفة وهذا الحرص قررت الشرائع الدينية كافة، ومنها الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع وأكملها وأكثرها انسجاماً مع الفطرة ومقتضيات الطبيعة الإنسانية نظاماً لتحفيز البشر ودفعهم في الاتجاه الذي ينبغي لهذا الإنسان أن يسير فيه؛ وعلى ضوء هذا التصور، فقد اعترفت الشريعة بحاجة الطبيعة الإنسانية إلى حث وتحريض خارجيين لا ينبعان من داخل الإنسان نفسه. ومن هنا نجد أن الإسلام كما غيره من الأديان سنَّ مجموعتين من الحوافز الإيجابية والسلبية، وهي ما يعرف في الفكر الإسلامي بالثواب والعقاب. ولن نتحدث كثيراً عن العقاب ولكن لا بد من الإشارة المختصرة والانتقال بعد ذلك إلى الجناح الآخر أي الثواب؛ ويعلم كل مسلم أن الشريعة سنت عقوبات رادعة عن كثير من الشرور التي تفتك باستقرار النظام الاجتماعي تحت عنوان الحدود، كحد السرقة والزنا والقتل وغيرها من الجرائم التي تضرب أصول المجتمع الإنساني في الصميم، ومن أحكام بعض هذه الحدود، على الأقل، أنها تقام على المجرم علناً ليكون ذلك عبرة لغيره من الناس، كما تقول الآية: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ(4) ويتهم بعض الكتاب المعاصرين الإسلام بالقسوة في العقوبات التي أقرها، ولكن من يعلم فلسفة هذه القسوة ير أنها منسجمة تمام الانسجام مع سماحة الشريعة وسهولتها، وبالأخص إذا لاحظنا أن الحدود تهدف بالدرجة الأولى إلى منع الفرد من ارتكاب الجرم، ولا تهدف بأي وجه من الوجوه إلى الانتقام منه ومن هنا نلاحظ تشدد الإسلام في وسائل الإثبات وتأمين الظروف التي ينبغي في الحالات الطبيعية أن تقلل من الرغبة في الوقوع في الجريمة.

ويحتاج تفصيل الكلام في هذا الموضوع إلى محل آخر. وأما الحوافز الإيجابية وهي أكثر، فإن الشريعة الإسلامية أقرتها واعترفت بها كذلك، ومن هنا نجد أن الله لا يبخل على عباده بثواب ولا يكلفهم بتكليف إلا وقد فرض لهم أجراً مقابلاً لما فرض عليهم، وفي القرآن آيات عدة تشير إلى هذا الأمر منها:
1 - قوله تعالى: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(5).
2 - وقوله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(6).
3 - وكذلك قوله: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(7).

هذه الآيات كما لا يخفى تتحدث عن الثواب الأخروي وهو بمعنى من المعاني بل ربما بكل ما للكلمة من معنى حافز مهم ومؤثر، وبخاصة إذا نظرنا إليه من داخل الفكر الديني وبعين المؤمنين بهذا الدين، فإن المؤمن يثق بما عند الله أكثر مما يثق بما بين يديه، ولكن مع ذلك لم يغفل الإسلام الحوافز المادية والمعنوية الدنيوية. ومن جملة الأمور التي يمكن الإشارة إليها في هذا المجال فتح باب التوبة في وجه الإنسان الذي اقترف شيئاً من المعاصي ثم أدركه الندم على ما فعل فقد أوسع الله له ومنحه فرصة التوبة ليجبر ما فاته من مخالفات ويعوض عنها، وكذلك يشار إلى حكم غير المسلم إذا دخل في الإسلام بعد أن كان بالغاً عاقلاً على دين آخر غير الإسلام ففاتته مجموعة من الواجبات، فمثل هذا الشخص لا يجب عليه قضاء ما فاته من عبادات، عملاً بقاعدة الإسلام يَجِبّ ما قبله. ولا شك في إمكانية تصنيف هذين الحكمين في باب الحوافز ذات الطابع الدنيوي.

ومن أجمل ما ورد في مجال الاهتمام بالجانب الدنيوي من الحوافز، ما أوصى به أمير المؤمنين علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر عندما ولاه مصر؛ حيث أوصاه بمجموعة من الوصايا التي تصلح أن تكون نظاماً إدارياً متكاملاً لكل حاكم ومتولٍّ لمسؤولية في دولة أو مؤسسة مهما اتسعت دائرتها أو ضاقت، يقول الإمام عليه السلام في عهده: "ولا يكونن المحسن والمسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة..."(8) ويقول في محل آخر من الكتاب نفسه: "ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختياراً ولا تولهم محاباة وأثرة...، ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن في ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك"(9). إذاً، من هذه النصوص وغيرها الكثير مما يصعب إحصاؤه يستفاد أن الإسلام اعترف بحاجة الإنسان إلى محفز خارجي، ولا يمكن الاتكال على الدافع الداخلي المخلوق معه بالفطرة.

* الحافز والإخلاص في العبادة:
ويحضرني في هذا المجال سؤال، هو: كيف يمكن الجمع بين الاعتماد على الحافز وبين الدعوة إلى الإخلاص في العبادة؟

في الجواب عن هذا السؤال، أود تأكيد أمر هام وهو أن الحالة المثلى التي يريد الله من الإنسان الوصول إليها هي القيام بأداء الواجبات وترك المحرمات دون أي التفات إلى الثواب المترتب عليها. وهذا ما يعبر عنه في النص المأثور بعبادة الأحرار في مقابل عبادة التجار والعبيد بحسب التصنيف المعروف لأنواع العبادة. وذلك أنه ورد في الحديث أن العبادة على أنواع ثلاثة: عبادة لأجل الثواب وهي عبادة التجار، وعبادة الخوف خوفاً من العقاب وهي عبادة العبيد، وعبادة لا بسبب هذا ولا لأجل ذاك، بل عبادة بدافع الشكر والمعرفة باستحقاق الله سبحانه للعبادة وهي عبادة الأحرار. نعم، ولكن لما كان الثواب المطروح في العبادات هو ثواب الله فإن قصده لا يضر بقصد التقرب به، ولا يدخل في باب الرياء وقصد رضا غيره سبحانه وتعالى. هذا في الأمور العبادية.

وأما الأمور غير العبادية، فلا مانع يمنع من القيام بها بغرض الحصول على الثواب الأخروي أو حتى الدنيوي؛ لأن الله يريد للأمور المتعلقة بإدارة شؤون العباد أن تتحقق، ولا يهمه إن كانت تتحقق لوجهه تعالى أو لأجل شي‏ء آخر، كالرغبة في الحصول على المال أو الشهرة أو الجاه. ولكن مع ذلك ضمنت أساليب التربية الإسلامية على الإخلاص لعدد كبير من المسلمين أن يتحولوا إلى مخلصين لا ينظرون إلاّ إلى وجه الله في كل عمل من أعمالهم التي يقومون بها سواء في ذلك ما كان عبادة محضاً كالصلاة والصوم، أو عبادة بالنية كخدمة الناس. وليصيروا بالتالي مصداقاً ولو نسبياً لقول أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث ينقل عنه أنه كان يقول: "الجلوس في المسجد أحب إليّ من الجلوس في الجنة، فإن في الجنة رضا نفسي وفي المسجد رضا ربي".


(1) ابن منظور، لسان العرب، مادة حفز، دار صادر، لا.تا، مج‏5، ص‏337.
(2) كامل بربر، الإدارة عملية ونظام، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، 1996م، ص‏141.
(3) موسى خليل، الإدارة المعاصرة، ط1، المؤسسة الجامعية للدراسات، بيروت، 2005م، ص‏178.
(4) سورة النور، الآية: 2.
(5) سورة آل عمران، الآية: 171.
(6) سورة الأنعام، الآية: 160.
(7) سورة البقرة، الآية: 261.
(8) الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، قسم الكتب، الكتاب 53.
(9) المصدر نفسه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع