اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

جعبة مقاوم: محمّد..الاسم الحقيقي

أبو حسن

 



مر الليل بطيئاً تحت رذاذ المطر، غارقاً في الضباب، مفعماً برائحة الأرض الرطبة الموحلة، والرياح تعصف بالشجر صافرة شاجية، ولم أزل، منذ صلاة العشاء، جالساً على صندوق خشبي قديم ساهراً بباب الخيمة المختمرة برائحة العفونة الأبدية.. المسكونة ببرد الجبل، وكنت، منذ ثلاثة أيام، قد أعرت المعطف الكاكي المبطن بالفرو الكثيف لصاحبنا محسن المصاب بالروماتزم. مرت الليلة الخامسة والعشرون، أما حسام، ذلك الشاب اليافع المليء بالحماسة فهو هنا منذ سبعة وثلاثين يوماً.

هنا يزيد ضجيج المطر والرياح صعوبة الحراسة فيعفينا من التنصت على وقع أقدام الجنود أو حفيف الملابس بالشجر ويعفينا الضباب والمطر من تتبع ظلالهم بين الأشجار أو تحت ضوء القمر، فليس لنا إلا انتظارهم حتى يأتوا إلينا.. لن يجدوا في هذا الحرش المزدحم سوى طريق القدم التي شققناها فيصلون بسهولة إلى خيمتنا.. لن يقل عددهم عن ثلاثين جندياً، ونحن خمسة مقاتلين.. لم أقتل أحداً منهم حتى الآن، لو جاؤوا سأوقظ الشباب وأحتمي بهذه الصخرة وأطلق كل ما معي من رصاص، سأقتل كل ما يتحرك في هذا الظلام.. الحاج جلال، صاحب النوم الثقيل ذاك، ربما سيستيقظ بعد انتهاء المواجهة.. إن نومه ثقيل حقاً.. نظرت إلى ساعتي تحت ضوء شاشة الجهاز اللاسلكي، إنها الثانية وعشر دقائق، رحت إلى أقصى الخيمة:


- جلال.. حاج جلال.. هيا..
- ماذا؟
- إنها نوبتك.. إنها الساعة الثانية.. هيا قم لا تتأخر.
- أحرس عني قليلاً، أنا متعب.
- أريد أن أرحل الآن، لا أستطيع أن أتأخر.. هيا اتكل على الله.
قام جلال بعد جهد جهيد، فرك عينيه وارتدى معطفه وقال:
- أعطني البندقية.
- سنذهب من دون سلاح؟
- السلاح لا يكفي، و ربما سيأتي الشباب الجدد دون بنادق كالعادة، ليس هناك خطر في الطريق.
- وحسام؟ ألن يأتي ببندقيته؟
- لا، ما من حل، هيا أيقظه لتذهبا قبل الفجر.

استيقظ حسام على صوتنا وارتدى معطفه وانتعل حذاءه على عجل، صامتاً كعادته إلا أن جسده بدا يرتجف من البرد. كانت التلة المنحدرة التي نصبنا فيها خيمتنا موحلة زلقة ومفروشة بورق البلوط وحباته المتساقطة، وتحوَّل طريق القدم إلى ساقية تحمل كل ما يصادفها نحو الوادي حيث يصطخب النهر. خلال المسير غدا حذائي القصير مغمساً بالوحل البارد اللزج، ورحنا نُصَعِّدُ التلة متشبثين بشجيرات البلوط تزخنا بباقي مطر الليل كلما اشتدت الريح.. لعل ماجدة بانتظاري ساهرة الليلة.. كلا إنهم نائمون الآن.. لعل ياسر يوقظها ببكائه الليلي وهي تسليه وتحدو له.. سرنا بلا توقف، دون انزلاقات حقيقية، حتى وصلنا القمة شبه الجرداء واللهاث نال منا وبللنا العرق ومطر الشجر، جلسنا بصمت في العراء بعيداً عن الحرش المتخم بالمياه، وفتحت رئتي للهواء. وفي الأسفل، نحو الشرق، بدت أضواء "اللويزة" غريقة غامضة وسط الضباب. مددت يدي إلى حقيبتي فوجدت ملابسي مبللة بالمياه والوحل وبينها بعض حبات البلوط الباردة.. سأغادر عند الفجر فلا حاجة للثياب النظيفة.. خَفَتَ اللهاث وتسللت البرودة للمفاصل والعظام، وقفتُ محركاً يديّ وقدميّ لأنال بعض الدفء، وتحسست أصابع قدمي المتجمدة ورحت أحركها داخل الحذاء وأحكها بالوحل المتجمع في داخله، وجعلت أفرك يدي ببعضهما، وكان حسام جاثياً على ركبتيه واضعاً رأسه بينهما ومطلقاً لأنفاسه العنان. تقدمنا نحو المقلب الآخر للتلة، فبدت "جرجوع" و"عربصاليم" و"حومين" مستلقية بين الجبال المعتمة، وقد لاحت بعض اضوائها. ثم أنار البرق السماء باتجاه الغرب، وهدر الرعد، وانطفأت أضواء القرى ليغرق الوادي في ظلام نهائي. وتناهت إلى سمعي من بعيد، في تلك اللحظات، وسط تهطال المطر، أصداء إطلاق نار غزير لجهة "جبل صافي"، تكررت عدة مرات تتبعها إنفجارات الهاون.. قذيفة وأخرى ثم زخّة من القذائف اخترقت أضواء نيرانها الضباب والظلام، قلت لحسام:

- ليست هذه قذائفنا إنها مرابض العدو بمدافعها العديدة.
- ماذا سنفعل؟
- لنذهب إلى "عين بوسوار" ونعرف ماذا يحصل، ربما هناك مواجهة.. وها هي موجة هاون أخرى.. لا بد أن المواجهة حامية، هيا بنا، فلنذهب بسرعة.
- ليس معنا سلاح، والمسافة طويلة حتى نصل تحت هذا المطر وزلق الطريق.
- في "عين بوسوار" صديق لديه رشاش متوسط وكلاشنكوف.. ولا زلنا شباباً نستطيع الركض.. سنتدبر أمرنا.. هيا يجب أن نسرع.
- انتظر.. ووضع يديه على اذنيه بشكل بوق.. إنه صفير قذائف الميدان الإسرائيلية.. هيا لنذهب.

انطلقنا مهرولين تخب أقدامنا في الوحل الذي تطاير من أحذيتنا على رؤوسنا وظهورنا، والمطر يغسلها تباعاً، نزلنا التلة نسابق اللهاث حتى وصلنا طريق السيارات، فغذذنا السير حتى وصلنا مشارف القرية وبدت ثمة بعض النوافذ شاحبة الضوء من خلال الضباب، توقفت قليلاً ووضعت يدي على ركبتي وانحنيت لآخذ بعض الهواء، وكان حسام يتابع سيره الحثيث. وصلنا منزل الصديق وأخذنا الرشاشين وعاودنا المسير باتجاه "جبل صافي"، كانت القذائف تتساقط على قمة الجبل الواحدة تلو الأخرى منيرة ظلام الفجر وسط أصداء نيران الرشاشات الغزيرة. ووسط الضباب، على الطريق المعهودة التي حفظناها عن ظهر قلب، تابعنا الخطى وتوقفنا عند شجرة البلوط الكبيرة ورحنا نضرب أقدامنا بجذعها لنزيل ما علق بها من وحل الطريق، وكان المطر قد كف عن التهطال، فعجلنا السير نتطلع يمنة ويسرة لعلنا نرى أحداً من الشباب دون أن نلمح سوى أضواء انفجارات القذائف، وكان الرشاش قد بدأ يثقل كاهلي بحزامه الجلدي القاسي، فلما وصلنا منبسط قمة الجبل أسندت عقبه إلى الأرض وتوقفت قليلاً، وفي الوادي بدت "عين بوسوار" ناعسة تحت ثقل الضباب الكثيف تلعب به الرياح، وعاد المطر ينث نثاً خفيفاً وراح الضباب يبهت شيئاً فشيئاً وتوقف سقوط الهاون والرصاص. أكملنا السير باتجاه ساحة المواجهة السابقة وهي فسحة تحيط بها شجيرات "الزعرور" والسنديان.. ويسبقها طريق يمتد على صخور تنحدر باتجاه الوادي وتحيط بها أشجار "الزعرور" من كل مكان.. سرنا إلى جانب طريق القدم كي لا ننزلق، وأنزلت حزام الرشاش عن كتفي وحملته بيدي متحاشياً اصطدامه بالشجر.. ولما وصلنا صخرة كبيرة أدركت أننا صرنا على مقربة من الساحة، تقدمنا وسط الصمت المخيم الذي يخرقه نقر قطرات المطر على الأوراق، وعلى بعد عدة أمتار بدت الصخور المنحدرة وقد تحول طريق القدم هناك إلى مجرى للوحول، فابتعدنا إلى جانبه وتابعنا السير، وسط الصمت، بحذر شديد فوق حبات البلوط كما تَصرُّ تحت أقدامنا خشخشة الأوراق التي غطت الأديم، وهبت الريح فغذذنا الخطى باتجاه الساحة.

- حسام.. حسام.. انخفص، أترى هؤلاء الأربعة؟. حدقت طويلاً وسط الظلام الكثيف والصمت، كانوا واقفين، على بعد عشرة أمتار، بجانب صخرة كبيرة، وفجأة أطلقوا النار باتجاه شجرتي بلوط قريبتين منهم، وعلا صوت من هناك:

يا زهـ.. راء..
أسندت الرشاش المتوسط إلى صخرة صغيرة وضغطت على الزناد فلمحت وجوههم تحت ضوء نيران رشاشي، وظلت سبابتي على الزناد حتى فرغ الصندوق، وكان حسام بجانبي يصليهم بنار رشاشه حتى سكتت بنادقهم، وضعت الرشاش على الصخرة وتقدمنا فوجدنا اثنين منهم على الأرض يلفظان الأنفاس الأخيرة.
- لعل الآخرين لاذا بالفرار.
- انتبه ربما هما بالجوار.
- هل معك رصاص؟.
- بقي مخزن واحد، وأنت؟.
- تركت الرشاش هناك، إنني أعزل.
- خذ سلاح الجندي وجعبته.. وكن على حذر.

أخذت السلاح ولففت الجعبة حول خاصرتي ورحنا باتجاه شجرتي البلوط لنجد أبا محمد قد اغتسل بدمه، وآخر مصاباً في صدره ووجهه.. مغتسلاً بدمائه أيضاً وأضاء الأفق لمع البرق فأبصرت في نهاية الساحة الجنديين يستند أحدهما إلى الآخر ينسحبان ببطء، فعدوت باتجاههما ولما لمع البرق ثانية سددت بندقيتي نحوهما وعاجلتهما بكل ما كان في المخزن، ولم يردا بالنار، فأخذت قنبلة يدوية من الجعبة ورميتها نحوهما وأبدلت مخزن الطلقات وأطلقت كل ما فيه نحوهما.. ورحت لأرى ما حل بهما مسدّداً البندقية ويدي على الزناد، ولما أصبحت على مقربة سمعت أنيناً واهياً وأطلق أحدهما طلقة باتجاهي فبادلته بزخّة عنيفة سمعت صراخه بعدها. عدت نحو حسام مطرقاً، وكان المطر قد عاد يهطل بغزارة، فرأيته محتضناً أبا محمد مجهشاً بالبكاء.. حينها فقط عرفت أن محمد هو اسم حسام الحقيقي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع