من وصايا السيد ابن طاووس قدس سره
الشيخ حسين كوراني
*صـدق التوحيد:
*وأوصيك يا ولدي محمد وأخاك ومن يقف على كتابي هذا(2) بالصدق في معاملة الله جلّ جلاله ورسوله صلى الله عليه وآله، وحفظ وصيتهما بما بشرا به من ظهور مولانا المهدي عليه السلام فإنني وجدت القول والفعل من كثير من الناس في حديثه عليه السلام مخالفاً للعقيدة من وجوه كثيرة:
1- منها : أنني وجدت أنه لو ذهب من الذي يعتقد إمامته عبدٌ أو فرس، أو درهم أو دينار، تَعلَّق خاطره وظاهره بطلب ذلك الشيء المفقود، وبذَل في تحصيله غاية المجهود، وما رأيت لتأخر هذا المحتشم عظيم الشأن عن إصلاح الإسلام والإيمان، وقطع دابر الكفار وأهل العدوان، مثل تعلق الخاطر بتلك الأشياء المحقرات!! فكيف يعتقد من يكون بهذه الصفات أنه عارف بحق الله جلّ جلاله وحق رسوله صلى الله عليه وآله ومعتقدٌ إمامة إمام زمانه على الوجه الذي يدعي المغالاة و الموالاة لشريف معاليه(3)؟
2- ومنها : أنني وجدت من يذكر أنه يعتقد وجوب رياسته والضرورة إلى ظهوره وإنفاذ أحكام إمامته، لو واصله بعض من يدعي أنه عدوّ لإمامته من سلطان، وشمله بإنعامه، لَتعلَّق خاطره ببقاء هذا السلطان المشار إليه، وشغله ذلك عن طلب المهدي عجل الله فرجه وعما يجب عليه من التمني لعزل الوالي المنعم عليه(4).
3- ومنها : أنني وجدت من يدعي وجوب السرور بسروره، والتكدر بتكدره صلوات الله عليه، يقول إنه معتقد أن كل ما في الدنيا قد أُخذ من يد المهدي عجل الله فرجه، وغصبه الناس والملوك من يديه، ومع هذا لا أراه يتأثر بذلك النهب والسلب كتأثره لو أخذ ذلك السلطان منه درهماً، أو ديناراً، أو مِلْكاً، أو عقاراً، فأين هذا من الوفاء ومعرفة الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وآله ومعرفة الأوصياء(5)؟!
4- ومنها: أنني قلت لبعض من يدعي الحرص على ظهوره والوفاء له والتأسف عليه ما تقول لو نفذ إليك المهدي عجل الله فرجه وقال لك إني قد عرفت من جهة آبائي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله بطريق محقق اعتمدت عليه أني متى ظهرت الآن فإن ساعة ما تقع عينك عليَّ تموت في الحال، ومتى تأخرتُ عن الظهور عشتَ عشرين سنة ممتَّعاً، مسروراً بالأهل والولد والمال، أفليس كنت تختار تأخر ظهوره لأجل حياتك الفانية(6)؟!
5- ومنها أنني قلت لبعض من يدعي، مغالياً في موالاته عليه السلام: لو أنفذ إليك وقال لك إن سلطان بلادك يعطيك بعد هذا اليوم كل يوم ألف دينار ثم أعطاك السلطان مستمراً على التكرار كل يوم جملة هذا المقدار، وقال عليه السلام: هو لك حلالٌ زمن الغيبة، ثم أنفذ إليك عليه السلام وقال: أنا قد أُذن لي في الظهور، وهذا العطاء ما كان بإذني ولا تستحقه إلا مع غيبتي، فأيُّما أحب إليك أظهر وأقطع هذا العطاء، وأحاسبك على كل ما فضُل عن مؤونتك، وأجعل هذا "الراتب" لبعض من بينك وبينه عداوة دنيوية، ممن منزلته في الظاهر دون منزلتك، فأيُّما كان أحب إليك، أن تطول غيبته وتأخذ العطاء كل يوم ألف دينار؟ أو يتعجل ظهوره ويحاسبك عليها ويقطعها ويردها إلى عدوك؟! عرِّفنا ما يكون في قلبك من الاختيار، وأعرف من الوجوه غير ما ذكرته الآن(7).
**وقلت لبعض الإخوان أن رجال المهدي عجل الله فرجه من يريده للوجه الذي أراده الله جل جلاله له، سواء كان نفعاً لهذا المريد أو غير نافع في العاجلة له(8). *وقد كان سألني بعض من يذكر أنه معتقد لإمامته فقال قد عرضت لي شبهة في غيبته.
فقلت: ما هي؟
فقال: أما كان يمكن أن يلقى أحداً من شيعته ويزيل الخلاف؟
واشترط علي أن لا أجيبه بالأجوبة المسطورة في الكتب، وذكر أنه: ما أزال الشبهة منه، ما وقف عليه ولا ما سمعه من الأعذار المذكورة!
فقلت: أيهما أقدر على إزالة الخلاف بين العباد، وأيُّهما أعظم وأبلغ في الرحمة والعدل والإرفاد؟
أليس الله جلّ جلاله؟
فقال: بلى.
فقلت له: فما منع الله جلّ جلاله أن يزيل الخلاف بين الأمم أجمعين وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وهو أقدر على تدبير ذلك بطرق لا يحيط بها علم الآدميين! أفليس أن ذلك لعذر يقتضيه عدله وفضله على اليقين؟
فقال: بلى.
فقلت له: فعذر نائبه عليه السلام هو عذره على التفصيل لأنه ما فعل فعلاً إلا ما يوافق رضاه "تعالى" على التمام.
فوافق وزالت الشبهة وعرف صدق ما أورده الله جل جلاله على لساني من الكلام(9).
*فكن في موالاته والوفاء له وتعلق الخاطر به:
1- على قدر مراد الله جل جلاله، ومراد رسوله صلى الله عليه وآله ، ومراد آبائه عليهم السلام ومراده عليه السلام منك(10).
يتبع
1-من الأخطاء الشائعة، الفصل بين الحديث عن "ولي الله، النبي أو الإمام" وبين الحديث عن توحيد الله تعالى، ويتفرع على هذا الخطأ توهم أن ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله، أو ولاية أهل البيت عليهم السلام، أو ولاية نائب الإمام المعصوم، الفقيه الجامع للشرائط الذي هو ولي الأمر، هي غير ولاية الله تعالى. وقد ازدادت هذه الشبهة انتشاراً في القرن الحالي، مع انطلاقة الوهابية بتشجيع من الدوائر البريطانية الإستخباراتيّة التي كانت تصر على اجتثاث التوحيد عبر الفصل بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله، ليفقد المسلم الركن الذي يأوي إليه حين يريد أن يتأكد من سلامة توحيده، ويتحول التوحيد إلى دعوى لا مجال لإثباتها مما يفسح في المجال لكل شبهة، وأي انحراف. توضيح ذلك: يؤكد القرآن الكريم على أن المحور في طاعة الله تعالى، وفي حبه عزّ وجل، هو الموقف من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...﴾﴿ 80﴾ (النساء)، ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ...﴾ ﴿31﴾ (آل عمران)، وأن المحور في التوبة الحقيقية وعدمها هو الوقوف بباب رسول الله صلى الله عليه وآله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ...﴾﴿64﴾ (النساء). وهذا يكشف بوضوح عن اقتران التوحيد بالوقوف بباب رسول الله صلى الله عليه وآله و أتباعه، بل يكشف بوضوح أن التوحيد يدور مدار هذا الإتباع وهذا الوقوف، أي أن الله تعالى جعل علامة صدق التوحيد حقيقة الموقف العملي من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الواضح أن الموقف من أهل البيت عليهم السلام ليس في حقيقته إلا الموقف من رسول الله صلى الله عليه وعليهم، ومن المتسالم عليه عندنا أن ما ثبت له صلى الله عليه وآله فقد ثبت لهم عليهم السلام، ما عدا النبوة ومختصاتها. وهو يعني -في ما أنا بصدده- أن طاعتهم وحبهم عليهم السلام، علامة صدق التوحيد. وهذه النقطة بالذات هي ما يريد السيد ابن طاووس عليه الرحمة والرضوان، أن يؤكدها في هذه الوصية. *و يتفرع على هذا الخطأ الشائع الفصل بين شهر رمضان، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله، أو وصيه المهدي المنتظر أرواحنا فداه، بمعنى الإحساس بأن لشهر ربيع الأول مثلاً علاقة مميزة بالمصطفى، ولشهر شعبان علاقة مميزة به وبوصيه صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، بينما شهر رمضان بعيد عن العلاقة المتميزة بهما، مع أنه شهر نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله، وشهر تنزّل الأمر ليمضيه الله تعالى إلى صاحب الأمر ويؤمر بالتنفيذ.
2- السيد ابن طاووس؛ كشف المحجة لثمرة المهجة؛ 39 (مختارات، بتصرف يسير).
3- يريد السيد رحمه الله تعالى أن يؤكد هنا مبدأ الشوق إلى وصي رسول الله صلى الله عليه وآله، والحنين إليه. أليس عنوان العلاقة بالمصطفى الحبيب وعترته صلى الله عليه وعليهم، هو الحب؟ أوليس الحب الصادق للحبيب هو الذي يتجذر مع البعد، ويزداد رسوخاً وتوهجاً بل وتوقداً؟ كم هي قصائد العشاق في "البين" والبعد عن الحبيب، و"الفراق" وتمني "الوصال" تتلظى حرقة والتياعاً؟ وكم هي قصص المحبين زاخرة بضرام الحب والحنين والحسرة والأنين؟ هل تجد أيها القلب في سويدائك أو الزوايا شيئاً من وله المحبين؟ أم أن قيس ليلى وجميل بثينة وأضرابهما أصدق منك حباً وولهاً وشغفاً بالوصال؟!! بئست العاقبة إذاً!! دع عنك يا قلب برقع وهم الحب. أحب. تعلم من المحبين كيف يكون الحنين إلى الريح المحمدي. لقد وجد يعقوب ريح يوسف لمَّا فصلت العير، فهل تدعي أنك وصلت إلى صاحب المصر والعصر المهدي، ولم تجد ريح محمد رسول الله وخير خلقه عز وجل؟!! إن وجدت العطر المحمدي، بل شذاً منه واحداً، ستردد مع الشيخ البهائي: لا تلوموني على فرط الضجر ليس قلبي من حديد أو حجر فات مطلوبي ومحبوبي هجر والحشا في كل آن في اشتعال!!(من قصيدته العصماء. انظر: الكشكول؛ ج1؛ ص: 303). يقض مضجع الحبيب تأخر المحبوب، وطول البين والفراق، فهل في هذا القلب المربدّ من ذلك عين أو أثر. ِلمَ التكلف والتملق إذاً؟ إلا أن يكون تملق الوصول إلى الحب، لا ادعاءه. أللهم ارزقنا.
4- إن سرى في القلب وجيب الحب، ففي أي درجة كان، لا تكتف بما أسبغ عليك الله تعالى من نعمة حبه عبر حب وليّه صاحب الأمر المتنزل في ليلة القدر. واصل الجهد ليدوي في أرجاء القلب الوجيب، ويعصف بكل ذرة من الكيان، ويجلجل حتى يرق الزجاج ويرق الشراب، فلا قلب. وهل يملك المحب مع حبيبه ميلاً لقلبه ورغبة إلا بما أراد الحبيب ومعه ؟ أو ليس هذا دليلاً على أن قلب المحب للحبيب. نعم لا قلب يفصل الحبيب عن الحبيب، فالقلب ساحة الذوبان في الحبيب والتفاني فيه. تعرف الأم كيف تحب، وكل حديث عن حب سواها فإنما هو كما ندعي أنا وأنت، ولا خطورة في أن نكتشف ذلك، إذا كان مدخلاً للتشبه بالمحبين، وطلبِ الحب الذي أخلى سرهم من كل سر، إلا سر الحبيب: عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيباً. ومن قال إن حب المهدي وجده ونفسه وأمه وآبائه غير حب الله تعالى؟ ومن قال إنه هو؟ ألم يطرق سمعك: " لنا مع الله حالات.." وهو سبحانه هو، وهم هم. عبادٌ مكرمون. درجة الحب التي يريد سيد العلماء المراقبين التنبيه إليها، هي الدرجة التي لا يقف في طريقها أي نفع يحصل عليه من يريد الوصول إلى الله تعالى ورسوله عبر الوصول إلى إمامه، فلو أن الدنيا وضعت في كفك من حاكم ظالم، وعرفت أن ظهور بقية الله في الأرضين، يحرمك من ذلك كله، فهل تظل تتمنى ظهوره أرواح العالمين له الفداء؟!!
5- أَقصِر يا قلب، و لا تذهبنَّ في الادعاء عريضاً.. دع عنك حديث الدنيا لو وضعت في كفك، وحدث نفسك بسيارة فقدتها، كيف لم يقر لك قرار، بل بساعة ضاعت، أو خاتم، كيف شغلك "الأمر" عمن حولك؟ ألم تستشط غضباً؟! تذكر ماعوناً كسر! أليس من العار أن تكون العلاقة بولي الله تعالى الأعظم دون العلاقة بمتاع ضاع؟!!! وتدعي يا قلب الحب؟ أنا وأنت أيها العزيز ينبغي أن نطلب علم الحب، لنعرف كيف يكون الحب. لنتذكرْ هذا كلما قال اللسان "عجل الله تعالى فرجه الشريف" علَّ القلب يقولها مرة!.
6- ما سبق كان الحديث فيه عما تملك الروح، والحديث هنا عن "الروح" لو عرفْتَ أنها تزهق عند الظهور، فهل تظل تتمنى ظهوره؟ قد تتصور أو أنا أن في تمثيل السيد مغالاةً وسيراً مع الافتراض، وحاشاه، فهو يمثل بما يطابق الحديث النبوي: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وتكون عترتي أحب إليه من عترته". ومن عرف حديث القلب ولغة الحب عرف أن حب المرء عترته أغلى لديه من نفسه. يريد السيد هنا أن نتفحص قلوبنا هل تحب المولى صاحب الزمان أكثر مما تحب الروح الروح؟!.
7- يلامس السيد هنا في القلب المعاقر للذنب، جبال الحسد الداكنة السوداء. ينقل العلامة المجلسي في البحار قصة من استبد به الحسد فطلب من غلامه قتله وإلقاء جسده على سطح من يحسده ليبتلى بسببه!! إذاً قد يكون دفع الخير عن المحسود أحب إلى النفس من النفس! فكيف هو حالك يا قلب مع مثل هذه الحال. تابع مع السيد المثال.
8- أليس السبب في حبه أنه ولي الله تعالى، ووصي رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن الطبيعي أن يكون حبه من ربى حب الله تعالى" لأنه أهل للحب" ومتى دخلت المصلحة القلب من باب خرج الحب من الباب الآخر. هذا إن كان.
9- ومنه يتضح جواب جميع التسويلات والوساوس التي تندرج تحت عنوان: "ما بال ولي الأمر لا يظهر"! أو تحت عنوان "الإحباط" أو "الشعور بالخيبة"، نتيجة العيش في جو نفسي يوقت رغم النهي عن التوقيت، ثم لا يتحقق ما استدلت عليه النفس بوصل القرائن برغبتها وجعل المزيج من القرينة والرغبة غير المبررة دليلاً! إن أمر الظهور بيد الله تعالى، وهو كالساعة "أكاد أخفيها" والتسليم هو التوازن بين احتمال بدء مقدمات الظهور المباشرة في كل آن، وبين احتمال خلافه وطول المدة.
10- فكل ارتباط به عليه السلام تحقيق للإرتباط بالله تعالى والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ولولاه لما كان. ومن المهم جداً الدربة على استحضار ذلك، بالإضافة إلى ما هو مسلم من الإعتقاد به. وهو المراد بصدق التوحيد في العلاقة به عليه صلوات الرحمن.