الشيخ محمود كرنيب
لقد صرّحت الروايات والأحاديث بأن لشهر رمضان المبارك مكانة عظيمة في الإسلام دفعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام إلى إبداء اهتمام عالي الدرجة بإعداد الأمة الإسلامية لاستقباله بما يليق به. ولذا فإن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قام في آخر جمعة من شهر شعبان بإلقاء خطبة ضمنها توجيهات رائعة ترشد المسلمين إلى جملة من الآداب التي إن قرنت بالصوم رفعت الصائمين إلى مقام الأهلية ليحصّلوا الرتب العالية من الضيافة والإكرام الإلهي.
فهذه الخطبة تكشف عن أسرار صيام الشهر المبارك وتبين الأمور المساعدة على تحويل الصوم إلى جوع هادف ليتحول إلى مدرسة تربي النفوس وتنمي الأرواح وتقوم السلوك المعوج وتصوب مسير الإنسان إلى ربه. وكأن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله يريد أن يقول إن هناك نعمة عظيمة وخيراً وفيراً هلّت تباشيره عليكم أيها المسلمون فتهيأوا للعبِّ من معينه بتوسعة أوعيتكم لتنالوا من هذه المضافة الحظ الأوفر والسهم الأكبر. ولذا بدأ صلى الله عليه وآله الخطبة بنسبة الشهر إلى اللَّه عزَّ وجلَّ قائلاً: "أيها الناس قد أقبل إليكم شهر اللَّه" وكل منسوب بنسبة خاصة إلى اللَّه فيه خاصتان: الهدى والبركة. ليبين بعد ذلك مقام الشهر عند اللَّه قائلاً: "شهر هو عند اللَّه أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي". ليبشر بعد ذلك بأنه "شهر قد دعيتم فيه إلى ضيافة اللَّه وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه...". لتتوالى بعد ذلك فقرات الخطبة لتغدو وثيقة بل تغدو برنامجاً للصائمين في شتى نواحي الحياة العبادية والأخلاقية والاجتماعية.
*البرنامج الاجتماعي لشهر رمضان
إن الصوم كسائر العبادات التي سنها اللَّه تعالى لها آثارها العملية ونتاجاتها الاجتماعية. حيث يتحول الصوم من مجرد حالة جوع إلى مدرسة تربي الإنسان إجتماعياً من حيث العلاقات وتنمي فيه جملة من المشاعر النبيلة من خلال الشعور بآلام الناس وتبني في الفرد إرادة الخير وحب الخير للناس بما يشد عرى المجتمع الإسلامي. فانظر إلى هذه الفقرة في خطبة الرسول حيث يقول: "وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم". فهؤلاء ليسوا بتعبير الرسول صلى الله عليه وآله فقراء مع تجهيل النسبة بل هم فقراؤنا المنسوبون إلينا وهذا فيه أسلوب رائع من التربية يوصل أبناء الأمة ببيان النسبة بما يوحد المجتمع ويلغي الفوارق. ثم يضيف صلى الله عليه وآله: "ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم" وهذه واجبات وفروض اجتماعية تتعلق بجانبين: واحد شعوري والآخر عملي فالتوقير والرحمة شعوريان، ولهما مظاهر في عالم العمل، وتأكيده صلى الله عليه وآله على هذين الشعورين ومظهرهما العملي يؤدي إلى نمو المشاعر الإنسانية وتربيتها. وكذلك: "وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم" ولا يكتفي الرسول ببيان الجهة الشعورية بل لا بد من خطوات عملية تشد أواصر المجتمع وترقى بمنظومة العلاقات فيقول صلى الله عليه وآله: "وصلوا أرحامكم". ثم لتنمية عناصر الود يقول صلى الله عليه وآله: "من فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه". فالصوم فرصة للتربية الاجتماعية والتدريب على العمل الاجتماعي العام، ومن جهة ثانية هو فرصة لتنمية إنسانية الإنسان من خلال إخراجه من أنانيته بإطفاء نيران شهواته وإيقاد مصابيح الصلاح والرقي الإنساني، فالصوم يعمل على بناء الشخصية الاجتماعية للإنسان المسلم ويصوب نظرته ومشاعره وعلاقاته مع سائر أبناء جنسه.
*البرنامج الأخلاقي
1- غض البصر والسمع: "وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم".
2 - التوبة: "وتوبوا إليه من ذنوبكم".
3 - تحسين الخلق: "أيها الناس، من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام".
4 -كف الشر (الأذى): إن من حكم الصوم تقوية عامل الرحمة في النفوس وهذا يدخل في جملة من المستحبات الواردة في الشهر الشريف منها رحمة الأطفال، وصلة الأرحام ويدخل في هذا الإطار كف الشر والأذى عن الناس: "ومن كف فيه شره كف اللَّه عنه غضبه يوم يلقاه".
5 - حفظ الألسن: لقد اعتبرت بعض الروايات أن من كمال وتمام الصوم كف الألسن عن القول السيئ بما هو محرم كالغيبة والنميمة والفحش في القول والكذب بل ذكرت بعض الروايات أن من الأمور التي قد تفسد الصيام بمعنى احباط الأجر هو ارتكاب بعض الذنوب اللسانية: "واحفظوا فيه ألسنتكم".
*البرنامج العبادي لشهر رمضان
شهر رمضان المبارك هو مأدبة الكرم والضيافة الإلهية التي دل عليها قول الرسول صلى الله عليه وآله: "هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة اللَّه وجعلتم فيه من أهل كرامة اللَّه" هذه الضيافة وهذا الكرم ليسا عبر مأدبة طعام أو شراب جسماني وإنما هي لذائذ روحية ومعنوية أهم وأدوم من كل طعام وشراب بل إن هذه اللذائذ يتوقف تذوقها والإحساس بطعمها على جوع الجسد وعطشه. إلا أن هذه الحاجات العظمى للنفس يمكن تحصيلها كما حدثنا رسول اللَّه في خطبته الشهيرة من خلال جملة خطوات وهذه الخطوات هي:
1 - التخلص من المعوقات:
فالذي يمنع الإنسان من السير باتجاه الهدف الذي هو الوصول إلى مقام القرب من اللَّه أمور تشكل معوقات ومشوشات ومثقلات لا بد من التخلص منها وهي:
الأول: حاجات النفس المادية وشهوات البدن، فالإنسان يحتاج في عملية جهاد نفسه إلى ما يقويه عليها ويضعف مقاومتها لتصبح مستعدة للخضوع، والصوم يضعف قوى الجسد ويسكن الشهوات التي تشكل مشوشات على صفاء توجه القلب.
الثاني: وساوس الشيطان: فالشيطان هذا العدو الذي أقسم في حضرة اللَّه وبعزة اللَّه أن يقعد للناس صراط اللَّه المستقيم ليحرفهم عن اللَّه ويعوقهم بل يمنعهم من الوصول إلى مقام القرب، هو قاطع الطريق الموصل إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وهو على حد تعبير الروايات يجري في الناس مجرى الدم. ولذا فإن أئمة أهل البيت أرشدونا إلى طريقة تسد عليه جريانه في الأنفس فقالوا: "ضيقوا مجاريه بالجوع" فالجوع مطلقاً يضيق مجاري الشيطان وأما في شهر رمضان فهناك شيء أزيد ولطف عبر عنه صلى الله عليه وآله في الخطبة قائلاً: "... والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم".
الثالث: الذنوب: التي تشكل ثقلاً على عاتق الإنسان يبطئ سيره ويثقل خطاه ويؤخره ويحد من تقدمه على الطريق إلى اللَّه الذي يمر عبر تكامل النفس. ولذا فقد بشرنا الرسول في أول الخطبة بما يخفف هذه الأثقال ويحط هذه الأوزار فقال صلى الله عليه وآله: "قد أقبل إليكم شهر اللَّه بالبركة والرحمة والمغفرة". ولذا فإن هذا الشهر الذي هو شهر المغفرة فرصة للتوبة والغفران. والخسارة حقاً هي عدم الاستفادة من هذه الفرصة ولذا قال صلى الله عليه وآله: "والشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر".
2 - مساعدات ومهيئات:
والإنسان إضافة إلى حاجته في الجانب العبادي للاستفادة من فرصة الشهر الشريف شهر رمضان إلى ما يزيل المعوقات ويرفع الموانع كذلك يحتاج إلى مساعدات ومهيئات، تعينه على نفس المهمة التي هي الصيام وتهيئ فيه القدرات والقوى للاستفادة القصوى، ومنها:
1 - الصوم في شهر رمضان عبادة جماعية: إن الإنسان في غير شهر رمضان، ربما يدخل مضمار جهاد النفس وحيداً بينما يشكل الشهر الشريف دورة جماعية مما يشكل عوناً نفسياً يقوي في النفس داعي العمل والعبادة وهذا بحد ذاته عون إلهي لكل البشر ليحصلوا ملكات الخير.
2 - تنمية قوى النفس في المدويات: ورد: "اجيعوا أكبادكم واعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى اللَّه". فالصوم يعمل على تعبئة قوى النفس وتهذيبها وتقويتها لتصل إلى كمال غاياتها. والصوم أيضاً يربي في الإنسان قوة إرادته أمام شهوات نفسه ويغرس مجموعة من الفضائل ومنها الصبر فعن الرسول صلى الله عليه وآله: "وهو شهر الصبر وإن الصبر ثوابه الجنة...". وينمي الصوم أيضاً في الإنسان القدرة على التحمل للجوع والعطش ومغالبة الشهوات مما يساعد الإنسان على التحكم بسلوكه ليتعامل مع الأشياء تعاملاً واعياً إرادياً.
3 - التذكير بالآخرة: "واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه". إن الرسول يريد منا أن نستخدم جوعنا وعطشنا في شهر رمضان كجرعة بسيطة تقرب من أفهامنا وأحاسيسنا يوم القيامة بأحداثه ليكون دافعاً لنا على اجتناب ذاك الجوع والعطش بكف النفس عن المحرمات.
4 - مضاعفة مؤثرية الأعمال: إن الإنسان بسبب إهماله وتوانيه وفي كثير من الأحيان بسبب معاصيه يبتعد كثيراً عن أهداف وجوده بحيث إنه يحتاج إلى أضعاف عمره فقط ليجبر تقصيره ويستدرك ما فاته. وشهر رمضان الذي هو شهر بركة تضاعف فيه مؤثرية الأعمال ويزداد عليها الأجر. ألم يقل الرسول إن الشهر أقبل بالبركة؟ وتترقى هذه البركة في الشهر لتصل إلى ليلة يغدو العمل فيها كالعمل في ألف شهر ومن مظاهر هذه البركة: "أنفاسكم فيه تسبيح... نومكم فيه عبادة... عملكم فيه مقبول... دعاؤكم فيه مستجاب".
* تفاصيل البرنامج العبادي بحسب خطبة الرسول صلى الله عليه وآله
1- الصلاة:
أ - واجبة "ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور".
الصلاة المقبولة: ولتكون الصلاة مقبولة يفترض اشتمالها على ما يلي:
1 - أن تكون حائزة على شرائطها الشرعية من طهارة واستقبال للقبلة وحضور الوقت.
2 - حضور القلب: الذي هو معيار قبول الصلاة.
3 - الإخلاص: أي أن تكون الصلاة خالصة من أي نية سوى اللَّه عزَّ وجلَّ.
ب - النوافل: ففي الخطبة: "ومن تطوع بصلاة كتب اللَّه له براءة من النار". وقد ورد استحباب كثير من الصلوات في شهر رمضان على أن أفضل هذه الصلوات التي يفترض إدراجها في برنامج شهر رمضان صلاة الليل.
2 - الاستغفار: ورد في خطبة النبي صلى الله عليه وآله: "إن أنفسكم مرهونة بذنوبكم ففكوها باستغفاركم". فعن أمير المؤمنين أن الاستغفار درجة العليين.
3 - طول السجود: "وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم".
فعن الإمام الرضا صلى الله عليه وآله: أقرب ما يكون العبد من اللَّه وهو ساجد وذلك قوله تعالى: "اسجد واقترب".
4 - الدعاء: الدعاء في نفسه مستحب بغض النظر عن الأزمنة والأمكنة ويتأكد استحبابه في الشهر الكريم ولذا رغّب رسول اللَّه بالدعاء مبيناً "دعاؤكم فيه مستجاب".
وفي نفس الخطبة عنه صلى الله عليه وآله بين جملة من الأمور المتعلقة بالدعاء وهي:
1 - وقت الدعاء: "وارفعوا أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم".
ب- كيف ندعو: "فسلوا اللَّه ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة".
ج - بم ندعو: "أن يوفقكم لصيامه".
"وتلاوة كتابه".
طلب المغفرة "فإن الشقي من حرم غفران اللَّه في هذا الشهر".
بقاء أبواب الجنان مفتوحة: "إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فسلوا ربكم أن لا يغلقها عليكم".
إبقاء أبواب النيران مغلقة: "وأبواب النيران مغلقة فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم".
عدم تسليط الشياطين: "والشياطين مغلولة فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم"
5- قراءة القرآن: "ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور" وذلك لأن شهر رمضان هو شهر نزول القرآن هذا الدستور الإلهي ففي الحديث: "لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان".
فأفضل عمل لضيف اللَّه في شهر اللَّه أن يشتغل بالقراءة لكتاب اللَّه والعناية به فهو أيضاً مأدبة اللَّه فيه العلم والشفاء من كل داء بل من أعظم الداء.
آدابه: 1- تدبر آياته، 2- الكون على وضوء، 3 - استقبال القبلة، 4 - تعظيمه واحترامه، 5 - إحضار القلب حال القراءة، 6 - التأني وعدم الاستعجال بالقراءة.
6 - الصلاة على النبي وآله:"ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقّل اللَّه ميزانه يوم تخف الموازين".
وفي رواية أن الصلاة على النبي وآله لا ترد بل يقبل ببركتها عمل المصلي ويستجاب دعاؤه وفي رواية أن الصلاة على النبي وآله أثقل ما في الميزان.
ومن شرائطها وصل آل محمد به في الصلاة عليه وإلا كانت بتراء.
وأخيراً نقول مع الإمام السجاد عليه السلام في صحيفته المباركة: "السلام عليك من مجاور رقَّت فيه القلوب وقلَّت فيه الذنوب، السلام عليك من ناصرٍ أعان على الشيطان وصاحب سهّل سبل الإحسان" مع الدعاء بأن يوفقنا اللَّه لصيامه وقيام لياليه.