إعداد: الشيخ أحمد حاطوم
وردت عبارة "طوعاً وكرهاً" في القرآن الكريم في أربعة مواضع مختلفة من خلال أربع آيات بينات وهي:
1- في الآية الثالثة والثمانين من سورة آل عمران حيث يقول تعالى: ﴿... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا...﴾.
2- وفي الآية الثالثة والخمسين من سورة التوبة حيث قال تعالى: ﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ...﴾.
3- وفي الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد حيث قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا...﴾.
4- وأخيراً في الآية الحادية عشر من سورة فصلت حيث يقول عزَّ من قائل: ﴿... فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا...﴾.
أما موضوع حديثنا فهو الإسلام للَّه تعالى كرهاً لا سيما في قوله تعالى في الآية الأولى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾.
وعن بيان هذه الآية: معنى الإسلام طوعاً معروف ولكن ما معناه كرهاً؟ وهل يصح ذلك مع قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾ (البقرة: 256).
والجواب: إن في ذلك وجوهاً.
1- أحدها أن يقال: معنى ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: ألقوا إليه السلم بما يُظْهِرُ حاجتهم إلى إرفاقه، وفقرهم إلى أرزاقه ونقائصهم التي لا تتم إلا بحسن تدبيره لهم، ونعمه السابقة عليهم، فقد دانوا له طوعاً وكرهاً وولهوا إليه فقراً وضعفاً، فالذين أسلموا له طوعاً الملائكة والنبيون وبعدهم المؤمنون الصديقون، والذين أسلموا كرهاً إبليس وأشياعه من الجن والإنس، ويصدِّق ذلك إبليس ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون﴾ (الحجر: 36) فدلَّ استنظاره له تعالى على إقراره بأنه مملوك مدبّر، ومصرّف مسخّر، وأنه لا يعتصم من اللَّه بمذهب، ولا ينجو بمهرب، ولا يبقى إلا أن يبقيه، ولا يأمن إلا أن يؤمنه، فبهذا الوجه عدّ من المستسلمين له تعالى، وإن كان شاذاً عن طاعته شارداً، وصاداً عن أمره صادفاً. وقد جاء الإسلام بمعنى الاستسلام والخضوع في كلامهم كثيراً، فمن ذلك في التنزيل قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا...﴾ (الحجرات: 14)، أي استسلمنا، وقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الذاريات: 36 - 35) قال بعض المفسرين: المراد بذلك غير بيت من المستسلمين خوف الهلاك. ويقولون: أسلم فلان نفسه إلى العدو إسلاماً سريعاً، وقد كان يمكنه أن يدافع ويمانع ويراد بذلك أنه ذلَّ لهم وخضع وانقاد ولم يمتنع، وقد كان يمكنه الامتناع عليهم ولكنه جَبُنَ فأوبقه جبنه فهذا في مذهب اللغة إسلام باكتساب واختيار لا بإلجاء واضطرار، إلا أن سببه كان الخوف. وقد يكون السبب الرجاء والطمع. ويقال أيضاً: فلان أسلم نفسه للموت إذا ألقى بيده ولم يمكنه المدافعة عن نفسه فهذا إسلام بكره واضطرار لا بمشيئة واختيار. فقوله سبحانه: ﴿... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا...﴾ يكون المراد به في الجملة الاستسلام الذي هو الانقياد والخضوع والذل والخشوع، إذ هم منقادون لأمره، غير ممتنعين من تدبيره، ثم ينقسم هذا الاستسلام: فمنه ما يكون طوعاً ومنه ما يكون كرهاً فالطوع مثل خلقه سبحانه الإنسان وسيماً جميلاً ومكثراً غنياً، فهو محب لتلك الحال غير كاره لها، والكره مثل خلقه تعالى الإنسان قبيحاً دميماً(1) ومقلاً معدماً، فهو يكره ما هو عليه ويحب الانتقال عنه، وكلا الفريقين قد أسلم للَّه خاضعاً، وذلّ لتدبيره ضارعاً، وذلك إسلام اضطرار لا اختيار وإن كان هذا الإسلام بعضه يصدر عن رضىً ومحبة، وبعضه يصدر عن إباء وكراهة.
2- وقال بعضهم: ﴿... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ أن المعنى واقع على البعض كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ...﴾ (آل عمران: 173) وإنما يريد تعالى: (بعض الناس على قول من قال إن المراد بذلك نعيم بن مسعود الأشجعي، لأنه كان المخبر لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله بتألّب قريش عليه وإجماعهم على الرجوع بعد وقعة بدر وكان المعني بهذا القول واحداً من الناس.
3- وقال الشعبي: معنى ﴿... وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا..﴾ هو قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...﴾ (الزخرف: 87) أي لا يقدرون على جحد خلقه لهم وملكه إياهم وإن ذهبوا عن أوامره، وأقدموا على زواجره، فكأنهم يقرون بأنه تعالى خالقهم كرهاً من غير خضوع لطاعته ولا تقرّباً إليه بعبادته بل بمنازعة عقولهم إلى الإقرار بربوبيته.
4- وقال بعضهم (ومنهم قتادة أحد المفسرين): المراد بذلك إسلام المؤمن طوعاً، وإسلام الكافر عند موته كرهاً، كما قال تعالى: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا...﴾ (غافر: 85)، وكقوله سبحانه في قصة فرعون: ﴿... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: 91 -90). فأعلم اللَّه تعالى أن إيمانه في تلك الحال لا يغني عنه، لأنه أسلم كرهاً وقال ما قال مضطراً.
5- وقال بعضهم: معنى ذلك أن المسلم كرهاً أسلم بحاله الناطقة عنه والشاهدة عليه من آثار الصنعة والدلائل التي جعلت في عقله على ذلك تقوده إلى الإقرار به طوعاً أو كرهاً، والتسليم له ضميراً أو قولاً.
6- وقال بعضهم: معنى ذلك سجود المؤمنين طائعين أو سجود ظلال الكفار كارهين، على ما جاء في قوله تعالى في سورة الرعد الآية 15: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ﴾. ويدل فحوى الكلام في هذه الآية على أن ظلال المؤمنين والكافرين جميعاً يسجد، لأنه قال تعالى: "وظلالهم". فكأن ظلال المؤمنين يسجد بسجودهم وظلال الكفار يسجد على الإباء منهم وهذا معنى قوله سبحانه: (وكرهاً).
7- وقال بعضهم: المراد بذلك: من دخل في الإسلام كرهاً مخافة السيف كالمؤلفة قلوبهم من سائر الأمم الذين كان إسلامهم تعوّذاً وطاعتهم تحرُّزاً. ومهما كان من هذه الوجوه، فليس يرجع قوله تعالى: (وكرهاً) إلا إلى أهل الأرض دون أهل السماء لأن أهل السماء هم الملائكة والملائكة لا يجوز عليهم الإسلام كرهاً بوجه، فقد خلص لهم صفة الإسلام طوعاً، وكان أهل الأرض يشتركون في استحقاق الصفتين جميعاً: فمنهم من أسلم طوعاً ومنهم من أسلم كرهاً. وقد يجوز أن يراد بإسلام من في الأرض إذا كان بمعنى الاستسلام ههنا غير العقلاء من الأطفال والبهائم وعبَّر عن هذين الجنسين بـ"من" لاختلاط العقلاء بهما في استيطان الأرض فجاز تغليب صفة العقلاء على غيرهم فيعبّر عنهم بـ(من) وليس ب(ما). فالمراد إذن بقوله تعالى (وله أسلم) الاستسلام الذي لا يراد به المدح، لأنه لو كان من أسماء المدح لما وصف بعض فاعليه بالكره ولهذا صلح أن يدخل تحته من يعقل ومن لا يعقل. وفي رأي العلاّمة الأستاذ محمد كاشف الغطاء إن قوله تعالى: (وله أسلم) ههنا معناه: سلّم، كما يقال: أعلم وعلّم بمعنى واحد. فيكون المعنى: وله سلّم من في السموات والأرض، أي: اعترف بعجزه عن مثل قدرته أو انتحال شيء من صنعته وضَعُفَ عن مقاومته ومقاهرته كما يقول القائل: قد سلمت لأمرك، أي عجزتُ عن مغالبتك، وأقررتُ بالضعف عن مساواتك ومطاولتك، وهو أيضاً راجع إلى معنى القول الأول، إلا أنَّ الفرق بينهما أنَّ "أسلم" ههنا بمعنى التسليم وهو هناك بمعنى الاستسلام. (إلهي بك هامتِ القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جمعت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلا بذكراك، ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك، أنت المسبَّحُ في كل مكان، والمعبود في كل زمان، والموجود في كل أوان، والمدعوُّ بكل لسان، والمعظّم في كل جنان، واستغفرك من كل لذةٍ بغير ذكرك، ومن كل راحةٍ بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك يا ذاكر الذاكرين ويا أرحم الراحمين) من مناجاة الذاكرين للإمام زين العابدين عليه السلام.
(1) دميم: قبيح.