الشيخ نعيم قاسم
بدأت غيبة الإمام المهدي عجل الله فرجه الكبرى عام 329ه بوفاة سفيره الرابع علي بن محمد السمري، حيث لم يعيِّن أحداً من بعده ليتواصل مع الناس، وينقل رسائلهم إلى الإمام وأجوبته عليها، وفي عقيدتنا أن المهدي عجل الله فرجه إمام الزمان، الحي، المختفي عن الأنظار، يظهر بعد انحرافات كبرى في حياة البشرية ليخلصها بدين الإسلام، حيث يقيم دولة الإسلام العالمية التي تنشر العدالة والاستقامة على امتداد الأرض. لكن تُصاحب غيبتُه حيرة، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علي عليه السلام "المهدي الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، تكون له غيبة وحيرة، يضل فيها أقوام، ويهتدي فيها آخرون " (1).
هذه الحيرة بمثابة اختبار وابتلاء، كما هي الغيبة اختبار وابتلاء. ويخطئ من يعتقد أن الحيرة سببٌ للضلال، فهي تعبير عن الجهل بوقت الظهور من ناحية، وهي من ناحية أخرى كأي شأن يُختبر فيه الإنسان الذي يكون بين تجاذبين: النفس الأمارة بالسوء والصلاح، لذا ذكر الأمير عليه السلام في الرواية بأنه "يضل فيها أقوام، ويهتدي فيها آخرون " ، أي كأي ابتلاء واختبار، ينجح فيه البعض ويسقط فيه البعض الآخر. وقد كان هذا الاختبار موجوداً بحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله في حياة المسلمين، وحياة أحد عشر إماماً قبل المهدي عجل الله فرجه بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فآمن من قد آمن، وكفر من قد كفر، وانحرف عن الخط الإسلامي كثيرون. فالاختبار قائم في حياة الناس بأشكال مختلفة، وغيبة الإمام حالة من حالات الاختبار. وقد ذكَّرنا اللَّه تعالى في القرآن الكريم باختبار الأمم السابقة، الذي يتكرر مع كل أمة، ليتميَّز الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: 3)، وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام:" إن هذا الأمر لا يأتيكم إلاَّ بعد إياس، ولا واللَّه حتى تُميَّزوا، ولا واللَّه حتى تمحصوا، ولا واللَّه حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد " (2)، فالامتحان مستمر، وعلى المؤمن أن يصمد ويُثبت أهليته لولاء الإمام مهما كانت الصعوبات والابتلاءات، فالنعمة الكبرى تتمثَّل بوجود الإمام ولو كان غائباً، وتتمثل أيضاً بأن يوفقنا اللَّه تعالى لنكون من جنده وأنصاره، ننتظر فرجه لنلتحق برايته، التي ترفرف أثناء غيابه بالاقتداء بنائب الحجة الولي الفقيه، وعند ظهوره من خلال قيادته المباشرة.
فالمؤمن ثابت على دينه، لا يتزلزل، ولا ينحرف، يأخذ المدد من إيمانه، ولا يعيش الحيرة، لأن الأمور واضحة أمامه، وبركات المهدي عجل الله فرجه تشمله، فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "القائم اسمه اسمي، وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح اللَّه تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلاَّ من امتحن اللَّه قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت يا رسول اللَّه، فهل للناس الانتفاع به في غيبته؟ فقال: إي والذي بعثني بالنبوة، إنَّهم يستضيئون بنور ولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإن سترها سحاب"(3).
يكفي المؤمن أن يتعلق بصاحب الأمر، وأن يكون مخلصاً في أدائه وولائه، وأن يجهد لنصرة دين اللَّه تعالى، ويعمل لغلبة الحق على الباطل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر...؛ ليكون بذلك قد تجاوز المحن والفتن والابتلاء بالنجاح في اختياره. فمن ادَّعى انتظاراً من دون عمل، وأبدى استعداداً للتضحية في عصر ظهور الإمام، ضلَّ الطريق وابتعد عن الاستقامة، أمَّا من أخلص مؤمناً مسلِّماً لأمر اللَّه تعالى في كل أحواله، عاملاً في غيبته بأوامر الشريعة، فقد فاز والتحق بركب الحجة عجل الله فرجه. قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مخاطباً الحسين عليه السلام "التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحق، المظهر للدين، والباسط للعدل. قال الحسين عليه السلام يا أمير المؤمنين وإنَّ ذلك لكائن؟ فقال عليه السلام إي والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله بالنبوة، واصطفاه على جميع البرية، ولكن بعد غيبة وحيرة، فلا يثبت فيها على دينه إلاَّ المخلصون المباشرون لروح اليقين، الذين أخذ اللَّه عزَّ وجلَّ ميثاقهم بولايتنا، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه " (4). إذاً لا حيرة للمؤمن، الذي اختار طريق الهداية، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ( الأنعام: 153)، وهو الذي يهيء منتظراً بركات الأرض والسماء بظهور صاحب الأمر عجل الله فرجه فعن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله:" المهدي من ولدي، تكون له غيبة وحيرة، تضل فيها أمم، يأتي بذخيرة الأنبياء عليهم السلام، فيملأها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً " (5)، فهنيئاً لمن أحسن الانتظار، وعاش الاطمئنان في خط الولاية.
(1) كوراني، الشيخ علي، معجم أحاديث الإمام المهدي عجل الله فرجه، ج3، ص61.
(2) الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص370.
(3) القندوزي، ينابيع المودة، ج3، ص399.
(4) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص304.
(5) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص287.