ولاء إبراهيم حمود(*)
أخيراً، عرفتُ كيف تكوي ذِكراه شغاف القلب، أمام حقيبته
المرميّة في خزانة ملابسه، وأشيائه الصغيرة.
سنوات خمس مرّت وأنا بالحب أوضِّبُ لوازمه فيها وأحضِّرُها، وبالشوق أُفرغها
لأملأها من جديد. كذا كنتنّ تفعَلن، أليس كذلك؟
* أمّاه.. هيّا يا ثقتي
أبكَتني حقيبته، تفتقدُ زهوها فوق شموخِ كتفيه، وصلابة خطاه، وهي تنتقل من ميدان
جهاد إلى آخر .
لكنّ حقيبةَ رفيق جهاده وشقيقه أذاقتني، بعد عاصفة الحُزن، طَعم عزيمةِ القلبِ
وتماسكِ نياطه أمام إشراقة البطولة التي تركها لنا، إرث جهادٍ عظيم وانتصارات
أكيدة.
الآن، اختبرت طَعم الدمع الساخن، صمتَه فوق الوجنتين المتّقدتين عند رؤيتي غرفته
تغرق في صمت الليل يلفّها وشاحه الأسود؛ لا صدى ابتسامته يؤنسني ولا وقع خطاه
يفاجئني ولا تكتكات أنامله فوق أزرار هاتفه تحدّث الأصدقاء وإخوة الجهاد تزعجني،
لكنّ صورته فوق الجدار تأمرني صامتة: "لقد حرّر الشباب -بعدي- نبّل والزهراء.
والتهنئة واجبة لأمهاتهنّ المرابطات على تخوم السهر والقلق. وأنتِ لا تنقصك التجربة
في هذا الميدان. كفاك يا أمّاه حزناً لقد آن أوان الكتابة. هيّا يا ثقتي".
* نال منهم ثمّ فاز.. وربّ الكعبة
ها أنذا، أمتثل وأحدّثكن عن معنى الحُزن السرِّي المنهمر مع زخّات المطر الليليّ
التي غسلت صورتَه، خارج المنزل، وهي تطلّ على دمعي من نافذة غُرفته المتأمّلة بصمت
ذكريات الزمن الجميل.
ولكنّ صورته نفسها حاملة ملامحه الوضّاءة قاومت الرياح التي عابَثتها... أبعدَتها
ثم قَرّبتها وانتصرت متماسكة بانتظار الليالي الآتية، تماماً، كما قاوم صاحبها لؤم
التكفيريّين وخسّتهم ونال منهم ثم فاز فوزاً عظيماً... فاز وربّ الكعبة مع الحسين
وصحبه.. شهيداً.
الآن، خَبِرت معنى مقاومة طَعم الحرقة واللوعة أمام مقعده الفارغ، قرب مائدة فطور
الصباح أو مجلسه أمام التلفاز لسماع نشرة أخبار المساء. ولكن، أخبار انتصارات
إخوانه بعده مسحت بمناديل العزّة دمعي، وملأت بمواويل الفخر سمعي، وأضاءت بقناديل
الأمل والرجاء ما بقي لي من دربي، وأدركت يقيناً، أنهم يتابعون خطاه الواثقة، وبها
مع خطاهم الثابتة -التي هزَمت الريح وما لانت للعاصفة-ينتصرون.
* جراحات الرّحيل
الآن أدركت سرّ صقيع أناملي، وهي تنشر فوق حبل الغسيل ملابس قد غاب عنها معطفه
الشتويّ وسترته الصوفيّة وجواربه السميكة وقفّازات يديه الغاليتين. لكنّ، بزّته
العسكريّة المطويّة بعناية محتفظة بنجيع آخر... جراحاته، قبل جراحات الرحيل،
ذكّرتني أنّ في هذا الطقس العاصف شبيهتها يرتديها شقيقٌ لشهيدي فأسلمت للرجاء قلبي،
وللثقة بالله عقلي.
آه ما أكثر التفاصيل، وما أشدّ إيلامها، حين تحتشد له فوق تلافيف الذاكرة صوراً
حيّة ومشاهد تنبض حيويّة.. الصمت الحزين، الباكي فراقه، الذي يتبع صوت الباب وقد
أغلقته يداه بعد تلويحة الوداع الحاني المشفق.
رقْص الباب طرباً لإيقاع يديه تعزفان فوق خشبه أو حديده إيقاعاً موسيقياً لفرح
العودة ثانية بعد طول ليالي الانتظار المرابط في محاريب الدّعاء له ولإخوانه.
آه ما أكثر التفاصيل، وما أشدّ إيلامها قبلات الوداع الخائفة، عناق العودة السعيدة،
الوداع الصامت فوق الشرفة بعينين والهتين، تغمضان على قامته المهيبة المنطلقة بثبات
رجال محمّد وعليّ، ترجوان له سلامة العودة.
* بذكراهم منتصرون، هذا وعد الله
كل هذه التفاصيل أبكتني الآن، كما أبكتكنّ قبلي، ولكنّ صغار جيراني يملأون بصخب
الحياة الشارع الفاقد لظلال بطولته منذ شهرين أو ثلاثة، أعادوا لي ثقتي أنّ الحياة
تستمر وأنّ الأرض يرثها عباد الله الصالحون لأنّها معبر لأحياء عند ربّهم يُرزقون
وأننا بذكراهم بيننا تحت راية قائم آل محمّد، صاحب العصر والزمان، بإذن الله
منتصرون، هذا وعد الله.
الآن إذاً اختبرت معكنّ معنى الجهاد الأكبر الذي كتبه لنا رسول الله بحروفٍ من
نور.. وكلماتٍ من ذهب.. ومعانٍ من معين.
اعذرن قصور تعبيري عن بلوغ ما أنتنّ عليه من عظَمةٍ في الصبر والثبات والإصرار على
حفظ أمانة فلذات الأكباد، فلُغَتي أمامكنّ أكثر عجزاً عن السموّ إلى أنوار قلوبكنّ
الولهى.
آه حسين، يا شهيدي، جاء دوري الآن كي تعذّبني وتعاقبني.
هلَّا غفرت لي في عليائك يا شهيد الأربعين؟
* يا فخر الأمومة
أمّا لكنّ يا فخر الأمومة بين الأمم، معكنّ تحلو صعوبات البداية ولكن تسمو بإذن
الله مكافآت النهاية وحسن الختام، والعاقبة التي وُعِدَ بها المتّقون.
في عيدكنّ -وكل العمر أعياد لكنّ- كلّ عام وأنتنّ شرف نون النسوة، وعزّة تاء
التأنيث، ولآلئ كلّ قصائد الجهاد، والحبّ، وا?مومة في لغتنا الجميلة وحياتنا التي
حين نقدّمها في سبيل الله تغدو نبيلة.
السلام عليكنّ يا أجمل الأمّهات وأنبلهنّ وأشرفهنّ.
كلّ عام وأنتنّ تاج الأمومة، وقلبها النابض، بدفء جهادها العظيم أمام عين الله.
(*) والدة شهيد الدفاع عن المقدّسات حسين كمال حمود. استشهد بتاريخ
30/11/2015م.