الحاج عبد اللَّه قصير
يعتبر علماء الأنتربولوجيا أن الموروثات الشعبية (الفولوكلور) هي تقليد ومحاكاة لعادات وتقاليد موروثة وراسخة في الخيال الشعبي ولا يمكن تغييرها بسهولة، حتى لو تغيرت الأجيال والنظم الاجتماعية والاقتصادية، لأن من خصائصها أنها تنتقل من جيل إلى جيل شعورياً أو لا شعورياً، وخاصة إذا كانت هذه الشعائر والطقوس مرتبطة بمشاعر دينية ووطنية واجتماعية.
لقد شكلت عاشوراء أول تراجيديا في الإسلام، أفرزت مبادئ وقيماً وسلوكاً وشعائر وطقوساً كونت منبعاً فياضاً من الحزن لا ينضب، وإرثاً فكرياً وثورياً لا يهدأ. فإحياء ذكرى واقعة كربلاء ومراسيم هذا الإحياء الخاصة في رمزيتها وتأثيرها وعمقها الاجتماعي أصبحت، مع مرور الزمن، ظاهرة دينية ذات بعد اجتماعي سياسي، وظاهرة شعبية ترتبط بالتراث الإسلامي. وصارت جزءاً من الموروثات الشعبية عند المسلمين الشيعة خاصة. وإذا كانت رمزية كربلاء وعاشوراء هي رمزية حزن على مصاب عظيم لرمز من رموز التاريخ الإسلامي فإنها في الوقت نفسه تعبير عن الولاء للقضية التي استشهد من أجلها سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام. وهي بالتالي تعبير عن الاستعداد للتضحية والبذل في هذا النهج وتحت راية هذا الرمز. وإذا كان اللطم كطقس متأصل في العادات والشعائر الحسينية فهو في الوقت عينه تعبير عن حالة الحزن والتعاطف مع صاحب الذكرى ورمزها المضيء، ولكنه حزن وتعاطف مشحون بوعي سياسي وديني يترك أثره وفاعليته في نفس وعاطفة وروحية الممارسين لهذه الشعيرة. حيث يعيشون هذه الحالة الروحية والعاطفية ويتفاعلون معها وينفعلون بها ومن خلالها، لتأكيد تمسكهم بمنهج صاحب الذكرى بكل أبعاده السياسية والثورية والفكرية. وبهذا المعنى يصبح اللطم جزءاً من الطقوس والشعائر التي تبعث على الاستنهاض والاستعداد لنصرة السائرين في منهج عاشوراء والموالين لخط أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام وهو استنهاض يتأتى من التعاطف أولاً مع المصيبة والفاجعة والمتصاحب مع الحزن على صاحب الذكرى ومظلوميته ثم يتحول مع وعي أبعاد إحياء الذكرى والتمعن في أحداثها الدامية إلى إرادة نهوض وقيام في مواجهة الباطل الذي واجهه الإمام الحسين واستشهد في مواجهته له، ثم إلى وعي سياسي وفكري في مستويات عالية في فهم مرتكزات هذه القضية وامتداداتها التي تستمر في واقعنا وتجعل كربلاء حية وحاضرة في كل مواجهة بين الحق والباطل.
* كل يوم عاشوراء... كل أرض كربلاء:
وعندما نستعرض تاريخ الشعائر الحسينية فإننا نرى أنها احتلت أهمية بالغة في حياة المسلمين الشيعة ولعبت دوراً مهماً وفاعلاً في المعتقدات الروحية عندهم حيث تخلق أجواء دينية وثقافية يمكن توظيفها اجتماعياً وسياسياً بشكل فريد وخصوصية مميزة في الساحة الإسلامية العامة. ولعل انتساب معظم الثورات والحركات النهضوية إلى عاشوراء وكربلاء يكمن في هذا المعنى... فعندما يتحدث الإمام الخميني قدس سره عن الثورة الإسلامية وانتصارها يعتبرها من بركات عاشوراء "لولا نهضة سيد الشهداء لما استطعنا تحقيق النصر في ثورتنا هذه" ويضيف "إن ثورتنا هي امتداد لنهضة الحسين وإنها تبع لتلك النهضة وشعاع من أشعتها". ويؤكد الإمام بأن عاشوراء هي حركة نابعة من دور الأديان والنبوات والإمامة، التي تتلخص في القيام بمهمتي نشر عقيدة التوحيد وإقامة حكومة العدل الإلهي وهي قيام للَّه من أجل إصلاح الأمة وتقويم سلوكها في سبيل تلك الأهداف العظمى التي قدم تحقيقها وحفظها على حفظ المعصوم نفسه. ولعل في تأكيد الإمام الخميني قدس سره على "إقامة مراسم عاشوراء وفق الأساليب والسنن التقليدية" إشارة إلى مدى أهمية تفاصيل هذه المراسم ومنها اللطم على الصدور في تركه أثراً في نفوس المشاركين وروحيتهم ووعيهم. وهو يعتبر "أن هذه المنابر والمجالس والتعازي ومواكب اللطم هي التي حفظت لنا الإسلام. وأن مراسم اللطم والبكاء لو لم تكن موجودة لما أمكن أن يُحفظ هذا المذهب ويُصان". حيث كل مذهب وكل مدرسة بحاجة إلى اهتمام شعبي واحتضان والتفاف بأمثال هذه المراسم. نفس الأمر والمعنى جسدته تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان حيث تربى مجاهدو المقاومة وشهداؤها في ساحات المنابر الحسينية ووسط بيئة مراسم ومسيرات إحياء عاشوراء وفي مقدمها اللطم على الصدور حزناً على الحسين وأهل بيته عليهم السلام ولعل مشاهد تواجد القادة العلماء أمثال السيد عباس والشيخ راغب والسيد حسن نصر اللَّه وغيرهم في مقدمات المسيرات العاشورائية ومشاركتهم المباشرة في اللطم كان لها الأثر الكبير في كسر الحاجز النفسي عند البعض الذين كانوا لا يرون أن لطمهم على الصدور مشهد مألوف أو مناسب لمواقعهم القيادية والاعتبارية.
لقد رأيت في المسيرات العاشورائية ومسيرات تشييع الشهداء كيف أن الناس يشاركون بحماس أكبر مع اللطم لا سيما عندما يرون القادة والرموز يمارسون هذه الشعيرة. كذلك رأيت مئات المشاهد للتفاعل التدريجي عند الجمهور الواقف على جوانب الطرقات، من مختلف الأعمار والاتجاهات، عبر المشاركة في اللطم عندما يرون مشهد اللطم في المسيرة منظماً ومنسقاً بشكل مدروس. وهنا نصل إلى المحصلة لنقول إن اللطم باعتباره ركناً من أركان الشعائر الحسينية يستطيع أن يؤدي دوراً فاعلاً في الاستقطاب والاستنهاض والتفاعل مع الذكرى ومعانيها بقدر ما يكون منظماً ومنسقاً وبقدر ما يكون اللحن الذي يصاحبه مدروساً والعبارات التي يرددها اللاطمون ذات معنى ومغزى. فحركة اللطم المصاحبة لقصيدة الرثاء التي تحمل مضموناً ثرياً، تشكل بوابة مهمة للتفاعل عند الجمهور مع الذكرى ومضمونها والولاء لصاحبها والوعي لأبعادها والثبات في نهجها الحسيني المقاوم والرافض للظلم والطغيان والانحراف. وفي ذلك صلاح المجتمع والأمة، وبقاء الدين والرسالة.