الشيخ حسن غبريس
أثبت القرآن الكريم في إعجازه أنه معجزة شاملة غير منحصرة في نوع معيّن، فهو في الشمول بما لا يدع مجالاً حتى للحرف في بلوغ المعنى من الدقة المتناهية بما يعجز عنه فطاحل البلاغة والفصاحة. وقد تحدّى القرآن الكريم بإعجازه في آيات كثيرة تدلّ على أنّه معجزة إلهية تنحني لها البشرية قَصُر الزمان أو طال كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ (البقرة: 23). وكقوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: 88)
والآيات في هذا المجال كثيرة ومتنوعة في إبراز التحدّي للإنسان لتوقفه على حقيقة عجزه وتجرده في محفل العرض أمام خصمه ليقف مذهولاً في غمرات سكره أمام ما يسمع ويرى مما ينزل اللَّه على عبده محمد صلى الله عليه وآله. والتحدّي في الآيات بصيغة الإطلاق في (مثله) فلا هو مقتصر على البلاغة والفصاحة والعلم والتشريع بل ولا حتى على زمان معين أو مكان كذلك فهو معجزة عامة شاملة ليس لها حدود فهو تحدٍّ للفصيح والبليغ في فصاحته وبلاغته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه وللاجتماعي في اجتماعيته، ولواضع القوانين في قوانينه والسياسي في سياسته، وللحاكم في حكومته، ولجميع العالمين فيما ينالونه جميعاً كالغيب والاختلاف في الحكم والعلم والبيان. فالقرآن معجزة من جميع الجهات حتى عمد البعض إلى جعله معجزة في تطابق الحروف وتناسب عددها فيما يُسمّى ببعض مصطلحاته بالإعجاز العددي وليس عنه ببعيد في بعض جوانبه لكن الموضوع يحتاج إلى شيء من التدقيق والبيان خصوصاً وأن علماءَنا الأجلاء لم يتعرضوا لهذا النوع من البحث بشكل يُوجب الاطمئنان إليه والركون إلى فوائده فضلاً عن ندرة الروايات المشيرة إليه وفقدها في التصريح به. وعليه لا بدّ من التفريق في المسألة بين الإعجاز الراجع إلى الحروف في عينِها وعددها وبين أن تكون حروفاً دالة على معانٍ والإعجاز فيها يرجع للمعنى وليس للحرف وعدده.
فالكلام يقع في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: هو كون القرآن معجزة في عدد حروفه وتطابقها مع حروف أخرى بنفس العدد. وطريقة الاعجاز فيه: أن نعدَّ عدد الحروف في كلمة وردت في القرآن الكريم ونطابقها على كلمة أخرى في غيره بنفس العدد من الحروف ونعتبر أن العدد هو دليل على قصد ذلك المعنى من الكلمة الأخرى التي لم ترد في القرآن لا أن يكون الدليل هو القرآن نفسه أو ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ونموذج ذلك: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾. فنأتي بكلمة أو اسم فيه ثلاثة أحرف ونقول أن المقصود من نور في (نور اللَّه) هو هذا الاسم فيكون الدليل على هذا المقصود هو عدد الأحرف وليس رواية عن المعصومين عليهم السلام وهذا بلا شك توهين للقرآن فضلاً عن كونه يؤدي إلى هرج ومرج فما أكثر الأسماء التي تطابق في حروفها كلمة نور. وهذا يبطله:
أولاً: أن من الثابت عند المشهور من العلماء أن دلالة الألفاظ على معانيها اعتبارية وليست ذاتية فلا علاقة لا من قريب ولا من بعيد بين الطاء في كلمة طاولة والخشب المصنوعة منه ولا بين النون في نور والمعنى المقصود منها إنما هو أنس من كثرة استعمال اللفظ.
ثانياً: لم يرد عن المعصومين عليهم السلام ما يشير إلى هذه الطريقة بل المعلوم هو إرجاع الأمر إليهم والأخذ عنهم. فكلامهم عليهم السلام هو الحجة وليس تطابق الحروف دليلاً على صحة القرآن أو صحة خبرهم فضلاً عن كونه معجزة.
الأمر الثاني: كون القرآن معجزة في الحروف الواقعة في بدايات السور وفيما أفادته من معانٍ. وهذا لا إشكال فيه خصوصاً أنها جزء من القرآن وهي رموز لمعانٍ وقد ذكر العلامة الطباطبائي في الميزان في تفسير أول سورة الشورى أحد عشر وجهاً فيها يمكن مراجعتها. فالإعجاز هنا ليس في عين الحروف وإنما فيما أشارت إليه وأفادته من معانٍ فلا مدخلية للعدد في تحقق الإعجاز إلا ما ناسب البيان وبلوغ المراد.
الأمر الثالث: كون القرآن معجزة في تطابق عدد الكلمات المتحدثة عن موضوعات معينة بما يناسب بلوغ المعنى المقصود وهذا أيضاً لا إشكال فيه فالمرجع هو عدم الاختلاف في القرآن أو الخلط وإنما هي حكمة في إيصال المطلوب دون زيادة أو نقيصة.
نموذج ذلك: وردت كلمة الإيمان في القرآن إحدى عشر مرة وكلمة الكفر إحدى عشرة مرة وكذلك كلمة إبليس إحدى عشرة مرة والاستعاذة بمشتقاتها إحدى عشر مرة. ومثلاً كلمة محمد صلى الله عليه وآله أربع مرات وعدد حروفه أربع. وفي المقابل مثلاً وردت كلمة الدنيا مئة وإحدى عشرة مرة أما الآخرة فوردت ثماني وثماثين مرة. فلم يتعادلا. أو كذلك لفظ الشهر فقد ورد سبع عشرة مرة بمشتقاته فلم يطابق عدد الشهور الاثني عشر وكذلك كلمة يوم بمشتقاتها وردت 437 مرة (المصدر CD نور 2) فلم تطابق عدد أيام السنة وهكذا فمن الطبيعي ليس الأوّل إعجازاً في العدد إنما في البيان ولا الثاني خللاً فيه كذلك. بناء على ما تقدم تكون مسألة طرح الإعجاز العددي في القرآن على إطلاقها تحتاج إلى تأمل في صياغتها ورجوع إلى مضمونها. فصرف الذهن فيما هو أسمى من علم وبيان وحكمة وتفصيل كل شيء هو أجدر بالاهتمام وأعلى في المقام.