الشيخ محمد توفيق المقداد
إن موارد الاستثناء من حرمة الغناء لاحظها الشارع المقدَّس لأسباب واعتبارات خاصة، وهي بالمناسبة محدودة جداً بحيث لا تكون إباحة الغناء فيها ضمن شروط ومواصفات محددة شرعاً مؤثرة على المسار العام للمجتمع المسلم من حيث الانضباطية السلوكية والنفسية والإيمانية والأخلاقية والتربوية.
وموارد الاستثناء من الحرمة محصورة فيما يلي:
أولاً: "الغناء ليلة الزفاف": وقد دل على جواز هذا الإستثناء الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، حيث ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، ليست بالتي تدخل عليها الرجال" وفي خبر آخر عنه عليه السلام: "... والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس" وكما في الخبر الثالث عنه عليه السلام: "المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها". ولعل الحكمة في استثناء هذا المورد من الحرمة أن ليلة الزفاف هي ليلة فرح وسرور، والشارع الإسلامي لا يريد حرمان المرأة من الاحتفال بهذه المناسبة، ولذا أجاز الغناء في هذه الليلة بالخصوص لكي تفرح النساء كما هو المفروض، ولكن ضمن شروط ومواصفات فرضها الإسلام حتى لا يخرج الغناء عن حده المباح شرعاً في هذا المورد، ولذا لا يجوز حضور الرجال في مجلس غناء النساء، ولا أن يسمع الرجال صوتهن، ولا يجوز إحضار مغنٍّ لأن الاستثناء محصور بالمغنية فقط كما دلت الروايات، ولا يجوز استعمال الآلات الموسيقية، نعم في حال عدم إحضار مغنية للزفاف، يمكن للنساء أنفسهن أن ينشدن ويغنين لإشاعة جو من الفرح والابتهاج، ومن هنا لا يجوز الغناء في أية مناسبة مشابهة مثل حفل الخطوبة عند عقد القِران لأن هذا المورد مشمول بالحرمة كغيره من الموارد الأخرى، فضلاً عن المناسبات العديدة التي قد تحصل في حياة الناس نتيجة العادات والتقاليد وما شابه ذلك.
ثانياً: "المدائح والتواشيح الدينية": وهذه يراد بها مدح النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين المعصومين عليهم السلام، وجواز هذا المورد ناتج عن كونه خارجاً عن مفهوم الغناء، بل ليس منه على الإطلاق، ويشمل هذا العنوان أيضاً "المراثي" بحق النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام نظراً لما حصل لهم من مظلومية على أيدي المنافقين من أبناء هذه الأمة كشهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومظلومية الزهراء عليها السلام وشهادة الإمام الحسن عليه السلام وغير ذلك من الظلم الذي تعرض له ذلك البيت النبوي بعد رحيل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وقد أجاز علماؤنا ومراجعنا ذلك ولم يعتبروه من الغناء، بل من المدح والرثاء الجائزين لأنهما ليسا مما تعارف عليهما عند أهل الفسق والفجور الذين يريدون للغناء أن يكون أداة لهو وعبث وإفساد للناس، ومن هذا القبيل إقامة الموالد في مناسبات ولادة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والسيدة الزهراء عليها السلام، أو إقامة مجالس العزاء عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله أو غيره من الأئمة عليهم السلام وشهادة الزهراء عليها السلام، وقد كان هذا الأمر جارياً وفق الضوابط والموازين الشرعية المعتبرة، وكانت الناس الملتزمة بأحكام هذا الدين الحنيف تمارس هذه الحفلات والموالد من أجل الترفيه عن النفس من جهة وكسب الأجر والثواب من الجهة الأخرى.
* أناشيد وتواشيح محرمة شرعاً:
لكن ما حصل في الفترة الأخيرة أن الكثير من المنشدين لهذه الموالد صاروا يستعملون وسائل وأدوات موسيقية، وصاروا يأخذون ألحان أهل الفسق والفجور ويغيرون كلماتها اللهوية بكلمات ذات مضامين دينية ويقولون بأن هذه مدائح وتواشيح وما شابه ذلك ويضيفون عليها الصفة الشرعية زوراً وبهتاناً. ولهذا لا بد هنا من وقفة، ولا بد من إعادة تصويب هذا المسار الذي خرج عن جادة الصواب والحلال، ودخل في جادة الخطأ والحرام. وما نراه اليوم من الكثير من الأناشيد والمدائح والتواشيح الموجودة في الأسواق هي محرمة شرعاً ولا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا الإستماع إليها ولا الترويج لها لأنها غناء محرم شرعاً وإن حاول البعض تسميتها بتسميات شرعية وينسبها إلى أنها مدائح بحق النبي صلى الله عليه وآله أو الأئمة عليهم السلام أو الزهراء عليها السلام، لأن مجرد نسبة هذه الأناشيد المحرَّمة إلى الأسماء المحترمة عندنا والمقدسة لدينا لا يضفي عليها الصفة الشرعية المحلِّلة، بل تبقى على الحرمة نظراً لمضامينها غير المطابقة للمواصفات الشرعية كما هو المفروض. ولا بد من الإشارة إلى أمر آخر وهو أن مضمون هذه الأناشيد التي يدَّعون أنها شرعية ذات لغة سوقية ومبتذلة لا تليق بمقام أولئك العظماء ولا بمكانتهم مما قد يؤدي إلى الاستهتار بالقيم والمبادئ التي جسَّدها أهل البيت عليهم السلام في حياتهم حتى صاروا القدوة والنموذج لبني البشر أجمعين.
من هنا ندعو إلى وقف هذه المهزلة التي بلغت الذروة ويكفي إلقاء نظرة على ما يصدر من أشرطة كاسيت ومن حفلات تقام تحت هذا العنوان وهي مليئة بما هو حرام من الناحية الشرعية، وبما يُخرج هذه الحفلات عن طابعها الديني المميز الذي كانت عليه، ويجعلها شبيهة بحفلات أهل الفسق والفجور، وإن كان الحضور يعتبرون أنفسهم من الملتزمين والمتدينين. ومما يؤسف له أن المروجين لهذه الأشرطة المحرمة ينسبون أنفسهم إلى أنهم من الملتزمين ومن أبناء الحالة الإسلامية، ولكن ما نراه أنهم يستغلون هذا الوضع لتحقيق أرباح هي حرام من الناحية الشرعية وعليهم وزر من يشتري ويستمع، وكذلك كل من يتعاطى هذا الشأن بهذه الطريقة المحرمة هو شريك في الإثم والمعصية. ولذلك كله ندعو بكل صدق ومحبة وإخلاص كل المتعاطين بهذا الشأن من مؤلفين للأناشيد والتواشيح والمراثي، إلى الملحنين، وصولاً إلى المنشدين، ومن ثم المروجين وأصحاب شركات التسجيل والتوزيع أن تبادر إلى وقف إنتاج هذا النوع من الأشرطة أو إقامة هذا النموذج من الحفلات المحرمة بأسرع وقت ممكن بل بصورة فورية، والعودة بهذا النموذج الذي كان راقياً في صياغته اللغوية ومضامينه الإسلامية والعقائدية إلى ما كان عليه قبل شيوع هذه الموجة المنحرفة والشاذة والتي ذهبت ببهاء ونضارة وجمال المدح النبوي ومدح الأئمة عليهم السلام.
لهذا نقول لكل هؤلاء المروجين لهذه الموجة اتقوا اللَّه في دينكم وفي سمعة نبيكم وأئمتكم وتوقفوا عن هذه المهزلة بسبب الطمع المادي الذي لن يفيدكم وسيكون عليكم وبالاً يوم القيامة لأنه مال حرام ومكتسب من طريق محرم. فالمدائح النبوية والإمامية ينبغي أن ترقى إلى مقام أولئك العظام، وأن تكون متناسبة مع شأنهم وحالهم، بينما نرى أن الموجة الجديدة الدارجة اليوم لا تتمتع بالحس اللغوي ولا بالمضمون الذي يليق بشأن المعصومين عليهم السلام. ومن كل هذا ندعو علماءنا والمسؤولين عن مجريات أمورنا أن يهبوا للدفاع عن رموزنا العظيمة التي يحاول بعض المستغلِّين تحقيق أرباح مادية رخيصة على حسابها، وأن يرشدوا الناس إلى ضرورة مقاطعة هذه الموجة ونتاجها وأن يوضحوا للناس مكامن الخلل والحرام فيها حتى لا نكون شركاء في هذا الأمر من خلال سكوتنا عنه وعدم الوقوف بوجه هؤلاء المتاجرين بالمقدسات والمقدسين.