فاتن إبراهيم
ليس الليل وحده يحمل الومضات التي تزدهي بزينتها عيون الكائنات، فنجم غابر كلّم ذاكرة الوطن لتحدّق إن ألفت يوماً ملامح ذاك الوجه الأرعن الذي نعم في طفولة كالسدائم التي تتنافس في الضوء بين زوايا السماء، جذلان عبر الحقول، مدندناً بين الدروب. دخل أوّل مرّة لم يجرؤ ويقول للوطن "أنا هنا". لاحقته عيون الطلاب في إحدى الجامعات، لم يكن شكله غريباً بالنسبة لطفل يحمل أوزار الحرب، كان يجول في حرم الجامعة برجليه الحافيتين اللتين تشققتا من خشونة الأرض فأصبح لديه نعلان سميكان ومتينان. وشعره الذي أعلن العداء للفرشاة، وثيابه الرثة التي لا تناسب فصل الشتاء فالمكان مطلّ على البحر وهواءه لا يرحم البدن ومع ذلك كان قميصه مفتوحاً على الصدر وبنطاله يليق بصيف الخليج لهشاشته.
اقترب إلى جانبي ولأنني أتألّم عندما أرى طفولة مقهورة ساقني التأمل إلى براءة عينيه لأتساءل ماذا يرى من ويلات بهما، وكم لوناً من العذابات تساكن نفسه وهل تعرّفت شفافيتهما على الهمّ؟ سألته عن اسمه وعمره فردّ بصوت يليق بعمر ابن 9 سنوات: اسمي ربيع، وبأي صفّ؟ ردّ: أنا لست بالمدرسة، لكن لي صديقاً ألعب معه في الحارة، لديه كتب ويذهب إلى المدرسة، وعندما أردت أن أسأله عن سبب تواجده في هذا المكان، مدّ يده ليعرض عليّ أصنافاً من الحلوى "الفستقيَّة، والسمسميّة" وبلهجة امتزجت بالتوسّل قال: اشتري مني بعضاً بخمسمئة ليرة فقط". لقد أثار شفقتي هذا البائع الخجول فسعيه لكسب رزقه أجبر روحه الغضّة على الذلّ. أعطيته ألفاً وقلت له لا ضير من "الفستقية والسمسمية". وطار بلمحة بصر متنقلاً بين الطلاب يعرض عليهم منتوجاته غير آبه لردة فعل بعضهم السلبية، فهذا يضربه وذاك يصبّ عليه غضبه بالشتم والسخرية. مرة أخرى رأيته يقبل من بعيد بشكله الذي كان متغيراً فقد كان يلبس حذاءً كبيراً، وشعره ملبد كأن عليه ذاك "الجايل" الذي يستعمله شباب الجامعة وكان يمشي متبختراً ليبدي تقرّبه من الموضة، سلّمت عليه صديقتي وقدّمت له فطوراً، وعندما عرض عليّ أن أشتري منه نقدته ألفاً دون أن يكون لي مزاج لتناول الحلوى، فانتهرني: "أنا مش شحاد" وبعدما تركنا أخبرتني صديقتي أنه وأهله هُجروا في أيام الاحتلال وأبوه رجل مريض وبحاجة إلى علاج في المستشفى والأم تعمل في أحد البيوت.
أطلّ مرة أخرى في نهاية العام الدراسي بسحنته التي لوحتها شمس حزيران ودخل بخطوات متهادية وكان يبدو على ملامحه الذبول وكأن جسمه النحيل يشكو من الإرهاق والتعب، وما كانت إلاّ لحظات حتى رأيته يهوي مفترشاً غبار الأرض وقد تناثرت حبّات الحلوى من يديه في كل مكان، سارع إليه الطلاَّب وحملوه إلى غرفة مكيّفة، وعندما استفاق صار يتأوّه من ألم في معدته ورأسه تاركاً دموعه تنساب لعدم قدرته على استعادة قواه، وبدا في صورته لأوّل مرّة الطفل الذي يتمنّى أن يسكن حضن أمّه وليس الفتى المعتمد على نفسه لجمع رزقه، سألناه عن بكائه فردّ بلغة لا مثيل لها من الصبر أنه لم يأكل منذ يومين هو وإخوته من أجل توفير القوت لجمع ثمن الدواء لوالدهم المريض وأنه لم يرَ أمّه منذ أيّام لأنها تنام عند مستخدميها ولا أحد قادر أن يحميهم من صاحب المنزل الذي سيطردهم من "تخشيبة" لا تصلح زريبة للحيوانات لعدم إيجاد مقوّمات الحياة بين جدرانها.
وعندما سمع الطلاّب كلامه المملوء بالأنين والحزن حاول كل واحد منهم أن يساعده فأعطوه مبلغاً من المال واشتروا منه ما تبقى في الصندوق وطلبوا منه أن يذهب إلى البيت ليرتاح ولا يعيد التجوّل، وذهب أحدهم لإيصاله وعند رجوعه أقسم أنه بكى ليس لأنه رأى والداً مقعداً كأنه بين الأموات أو غرفة سيئة، بل حين رأى الطفل ذا التسع سنوات يعانق والده ويبشره بالمال الذي أحضره له ليؤمن العلاج الذي يحتاجه وأن إخوانه يمكنهم أن يتغدوا ويتناولوا طعامهم لأيّام. لقد استكبر على نفسه أن يكون فتى الوطن الذي تغنّت القوافي بهامته السارحة بخيوط الفجر وروحه السابحة بين أنسام العشايا، ولم ترصع لمساته ملاعب الطفل الشقي بين أي دسكرة أو تسلّق أي شجرة بل ترك لسماء المدينة قصّة النجوم التي تحترق.