ايفا علوية ناصر الدين
ها هو ممددٌ بكفنه الأبيض وسط جميع الجالسين الذين تبدو على ملامحهم علامات الحزن وهم يستمعون إلى آيات القرآن يتلوها مقرئ العزاء بين باكٍ وواجم ومتأمل. عيناه مغمضتان لكنه يراهم جيداً: الأهل، الأقارب، الأصدقاء والجيران، جميعهم جاؤوا ليلقوا نظرة الوداع الأخير على جثمانه في اللحظات القليلة التي سينتهي فيها وجوده من هذه الدنيا. جال بنظره مجدداً على الحاضرين مركِّزاً سمعه على كلمات تراشقت من أفواه بعضهم فزادته ألماً وحسرة: اللَّه يرحمه فالموت حق لا مفر منه.
اللَّه يساعده فلا شيء أصعب من الموت وخصوصاً إذا كان الميت لم يجهِّز نفسه لآخرته كما يجب. لا يجب أن يتأخروا عليه في الدفن، فراحة الميت دفنه. أشعلت هذه الكلمات النار في قلبه، وأحسَّ بغصة كبيرة جاثمة على صدره، وبحسرة شديدة على الغفلة التي كانت نفسه غارقة في سباتها، أراد أن يبكي إلا أنه شعر بالدموع متجمدة في مقلتيه، أراد أن يصرخ في الحاضرين أن: اتركوني قليلاً بينكم، ولا تستعجلوا عليَّ الرحيل، أراد أن يلفظ بلسانه كلمات توسل لرب العالمين أن: أرجعني إلى الحياة من جديد، سنة واحدة تكفيني لأنقذ نفسي بل يوم، بل ساعة... لكن هيهات فلسانه مشلول الحركة. أراد أن يومئ بيديه، أن يحرِّك رجليه، أن يرفع رأسه إلاَّ أنه شعر بانعدام قدرته وبالجمود الذي يعتري أنحاء جسده.
وما هي إلا لحظات حتى رآهم يقتربون، يجتمعون فوقه، ويمدّون أيديهم ليحملوه إلى مثواه الأخير فعاودته الرهبة وسرت قشعريرة لاهبة في عروقه الخامدة موقظة قلبه بنبضات متسارعة، محرِّكة جسده المتململ في محاولة مريرة لاسترجاع قواه الخائرة ما لبث فيها أن انتفض قائماً في استغراب لما يرى حوله. فالغرفة خالية إلا من ضوء القمر المتسلل إلى سريره في عتمة الليل. تبسَّم لشعوره بعودة الحياة إليه من كابوس كاد يخنق أنفاسه وهو يشكر اللَّه على حلم أماته فأحياه..