موسى حسين صفوان
الاختلاف بين بني البشر بات أمراً معلوماً، حتى لا يكاد يوجد شخصان منسجمان بشكل كامل، فكل إنسان يعتبر عالماً قائماً بذاته، تتكون شخصيته من عناصر مختلفة تتشكل من خلال ثقافته وتاريخه وبيئته، وسيرة حياته، وبالتالي فإن التعاطي أو بالأحرى التفاهم مع الآخر، لا بد أن يأخذ بالحسبان هذا التفاوت الطبيعي أو الكسبي، بشكل يعكس صورة إيجابية للاختلاف، ويحد من فرص النزاع بين الأفراد ومن ثم بين المجتمعات... هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لا بد أن تقوم العلاقات التبادلية على وجه الخصوص على أساسٍ من فهم طبيعة الآخر ومزاجه، والتحولات الطارئة على تكوينه النفسي والعناصر التي تشترك في صناعة ذوقه. ولقد استطاع العقل البشري، نظراً لحاجته الماسَّة لضوابط تحكم العناصر المكونة للانفعالات والاستجابات البشرية، وبالتالي تُسهِّل عملية التواصل، لأهداف تجارية بادئ ذي بدء ثم لأهداف دبلوماسية وسياسية؛ استطاع هذا العقل أن يضع العديد من النظريات التي تهتم بابتكار أساليب مبدعة في التعاطي مع الآخر. ومن تلك الأساليب، أو المناهج، منهج اللغة العصبية Neuro-Linguistic Programing NLP أو منهج التعاطي على أساس مجموعة من الفرضيات المسبقة Presuppositions التي وضعها علماء نفس وعلماء اجتماع متخصصون...
* القواعد الافتراضية في المنهج العصبي
يقوم مبدأ التفكير على طريقة N L P على أساس أن الإنسان حيثما يتفاعل مع أشخاص آخرين أو مع بيئة معينة، فإنه يتعاطى معها على قاعدة عريضة من الفرضيات حول ما هو صحيح وما هو غير صحيح والتي تشكل ما يعرف في الثقافة الإسلامية بالكليَّات بحيث يصبح الإنسان محكوماً في حركته إلى جملة من الكليات التي تكونت لديه من خلال تعاطيه مع البيئة الخارجية ولفترة طويلة من الزمن. بيد أن تلك الفرضيات ليست بالضرورة صحيحة دائماً، وليست بالضرورة متساوية لدى جميع الناس. وقد وضع المختصون جملة من الفرضيات المهمة التي تنفع في بناء شبكة من العلاقات العامة بين أفراد المجتمع والتي سوف ننتهز الفرصة هنا للتعرف على بعضها... بيد أن مثل تلك القواعد موجودة بشكل أو بآخر في تراثنا الإسلامي كما سوف نرى، وأهم تلك الفرضيات:
أولاً: كل تصرف له قصد إيجابي، وهذا يشبه القاعدة المشهورة في الآداب الإسلامية التي تدعو إلى حمل الآخرين على حسن الظن، خاصة إذا كانت المقدمات لا تشير إلى وجود ضرورة لسوء الظن. وهذا الافتراض أثار الكثير من الجدل بين أصحاب نظرية اللغة العصبية، فليس بالضرورة أن تكون الإيجابية بالنسبة لفريق هي عينها بالنسبة لفريق آخر.
ثانياً: القاعدة الثانية في هذه النظرية أن الناس عادة ما يختارون أفضل الخيارات المتوفرة لديهم في أي موضع يكونون فيه، ومعنى ذلك أن الناس لا يتخذون الخيارات السيئة عن سابق قصد وتصميم.
ثالثاً: القاعدة الثالثة والأهم ربما بين قواعد منهج N L P هي أن الأرض ليست الخريطة التي تمثلها، والأشياء ليست الكلمات التي تصفها، والأشياء ليست الرموز التي تعبر عنها، ومفاد ذلك أننا لا نستطيع أن عرف كل شيء عن أي شيء نريد، وهذا يتيح وجود تفاوت في وجهات النظر بين الأشخاص المتحاورين حول الموضوع نفسه لأن كلاً منهم يمتلك منظومات معلوماتية مختلفة، مما يعني أنهم يمكن أن يكونوا مختلفين في حين أن كلاً منهم يمكن أن يكون على صواب.
رابعاً: القاعدة الافتراضية الرابعة في المنهج العصبي N L P هي أنك إذا تابعت العمل الذي تعمله الآن فالأرجح أنك ستستمر بالحصول على النتائج نفسها التي تحصل عليها الآن. والجانب الآخر لهذا الافتراض هو أنه يوجد حلٌّ لكل وضع مشكل يمكن أن يعترض سبيلك وذلك فيما لو تابعت البحث عنه وهذا يقود إلى نتيجة هامة وهي أنه إذا كان الوضع يزداد سوءاً، وكان التغيير مطلوباً، فإنه سيكون من الأفضل أن يتم إجراء التغيير بشكل فعلي الآن، فالتغير سوف يؤدي حتماً إلى التغيير.
وهناك افتراضات أخرى هامة مثل اعتبار أن كلَّ إنسان يملك كل الإمكانات التي يحتاجها، وأن كل تصرف هو لا شك تصرف مناسب في سياق ما، وأن الفهم الأفضل يأتي فقط مع الخبرة، إلى العديد من الفرضيات الهامة في هذا المجال...
* ضرورة اتباع منهجية للعلاقات
وما يمكن قوله في هذا المجال أن المجتمعات الإنسانية وبالأخص مجتمعاتنا العربية والإسلامية يمكن أن تكون بأمس الحاجة للتوسع في وضع القواعد المنهجية للعلاقات فيما بين أفرادها ومجتمعاتها، لأننا رغم ما نملكه من رصيد فكري وثقافي في مجال العلاقات العامة فيما بيننا، وفي مجال تطوير المنظومات المعرفية لدينا، فإننا ما نزال وربما سوف نبقى إلى أمدٍ غير قريب، تحت وطأة العادات والأعراف التي تساهم في تفكيك المجتمع والتي تقوم على سوء الظن وعلى الافتراضات السلبية دون أن ننفي وجود ما يكفي من العادات والأعراف في مجتمعنا، سواء تلك الأعراف المهجورة أو الفاعلة، والتي تحظى بآثار إيجابية فالغالب والسائد في مجتمعنا اليوم الافتراضات السلبية القائمة أصلاً على سوء الظن والتهمة، مما يهيء المناخ لوجود الكثير من المشاكل في مجتمعاتنا، لتصبح رازحة تحت وطأة الإرهاق الاجتماعي بدل أن تكون هي الرائدة في إصلاح ذات بينها أولاً، ومن ثم إعطاء القدوة الصالحة للمجتمعات الأخرى...
* مبادئ العلاقات في الإسلام
وباختصار، فمهما أبدع علماء الاجتماع وعلماء النفس في ابتكار آليات وفرضيات في فن العلاقات العامة، فإن اللياقات الإسلامية والآداب والأخلاق والسنن الإسلامية في هذا المجال تعتبر بلا شك سبَّاقة في هذا المجال، وليس نافلة الادِّعاء بأن كل النظريات الحديثة خاصة في هذا المضمار لن ترقى إليها... وحتى لا يَكون هذا الكلام مجرد ادّعاء، لا بأس أن نذكر بعض المبادئ الأساسية التي قامت عليها أسس العلاقات مع الآخر في الثقافة الإسلامية:
أولاً: الإسلام يؤكد على واقعية الاختلاف بين البشر وطبيعيته، وضرورته لاستمرار عجلة وحيوية التاريخ الإنساني، فالناس رغم كونهم من أصل واحد إلا أنهم شعوبٌ وقبائل، ولا يزالون مختلفين، ولذلك خلقهم سبحانه.
ثانياً: مبدأ الوسطية، الذي يؤكد عليه الإسلام بدءاً من العلاقات الفردية وحتى أوسع الدوائر الاجتماعية، وهذه الوسطية تطال أنشطة الإنسان الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة.
ثالثاً: مبدأ حرية الإنسان من حيث الأصل، فالناس أحراراً يولدون، وأحراراً يعيشون، ولا إكراه في الدين...
رابعاً: مبدأ تقديم حسن الظن، فالمؤمن يحمل المؤمن على حسن الظن، ويقيل عثرته، ويقبل عذره، ويحمل عنه إصره ويعفيه من هفواته وسقطاته، فليس بالضرورة أن تكون الأخطاء دائماً مميتة، والتراجع عن الخطأ فضيلة.
خامساً: فتح باب التوبة، والرجوع عن الخطأ، بدءاً بالعلاقة مع الخالق العزيز الجبار، وحتى أدنى العلاقات العامة، رغم أن الإسلام يحث الإنسان على الابتعاد عن ما يضطره إلى الاعتذار.
وبعد فإن القيم الإسلامية والأخلاق الإسلامية أوسع كثيراً من أن نوجزها في هذا السياق، بيد أنه مع ذلك من المفيد الاطِّلاع على ثقافة الآخر ومناهج تفكيره في علاقاته الاجتماعية، فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدت، وهو لا يزال يبحث عنها.