حسن زعرور
بدا أحمد قلقاً متوتراً، وسنه العشرون لم تتعلم الصبر بعد، كانت الهواجس تقلقل أفكاره، وسوداوية غلبت رؤاه فراح يتململ في مجلسه، ونظراته المنغلقة تحاذر الإلتقاء بعيني أبيه، مخافة أن يلحظ فيها خبيئة نفسه، وما يعتور صدره من عواطف تكاد تدفعه للتوثب والحركة، وإذ يكاد يهمّ يعود للإنكفاء والجلوس عندما يرى آثار الهم البادية على وجه الهرم.
كثيراً ما حاول محادثة أبيه، والبوح له بما يثقل عليه، كان يخشى أن يلجّ فيجرح، أو يعاند فيسيء، أو يتجاهل فيؤذي، فلم يبق للوالد في الدنيا سواه، فَقَد أولاده واحداً تلو الآخر عُمر في العرقوب وبَدْر في الفاكهاني، وسميَّة في صبرا، وأمهم؟ الله وحده يعلم ما حلَّ بها، لا أحد يدري أميتة هي أم حية؟ وأي أرض احتوتها؟ خرجت يومها كعادتها تسأل عن أولادها ولم يُعدها ذلك اليوم، كان عنف الصدمة بفقد ضناها قد بلبل مداركها، وغدت تحادثهم وكأنهم أمامها، تارة تعتب على الغياب، وطوراً تشم وتضم السراب، حتى إذا ما أفاقها الواقع بلؤمه وأعادتها سوأته للتشتت والضياع أنّت بنواح وثلوم، وعبرات ملتَاعة جائعة في العيون، ولم يحتمل رقيق جسمها عذاباته فناص، وارتجعت بعقلها هاربة إلى الصمت تلوذ به أياماً، وباتت تخرج من غياب الليل إلى مغيب النهار دون أن يعرف أحد وجهتها وما فعلته، وكان يومٌ يأسَ اليأس فيه من عودتها إلى البيت. استرجع أحمد الذكريات وقيود الحيرة تغلب عليه، يجذبه الرفق ويشده السكوت، حتى غدا الصمت بين الاثنين أثقل من عذابات الكلام، تطلَّع أحمد إلى أبيه وراعه ذيل حرقة والتياع على الشفتين الذابلتين، ونواس تمتمات وشحي حزين.
مسح الأب قذى عينيه بكمه، وخرجت كلماته صابرة كأنما أثقلها عمره "لست أدري يا بني، أهي الحياة أن نحيا لمجرد أنها حياة، أم أن وحشة الموت أثقل لأنه موت، ورُبَّ تائه لا يعرف أهو ميّت أم حي أم أنه لا ميّت ولا حي، بعيد أن يعيش ضنين أن يموت، ترحل به الحياة وكأنه خلت منه الحياة". وتابع الأب كمن يكلم نفسه "عام 36، كنت في مثل عمرك الآن، يومها لم نفهم عظمة أن نموت، ومذّلة أن نعيش، لعل أيامنا لم تكن تفهم، وزماننا لم يكن يفهم، أن في موتنا حياة لكل الأجيال، ولكل الشهداء الذين فقدناهم كي نعود إلى فلسطين، آلاف خرجنا في ثورة 36، وآلاف خرجنا في تشرّد 48، يومها لم نقف، وبعده لم نقف أيضاً، ولو وقفنا، لطالما ساءلت نفسي، أكان جرى ما جرى لوقفنا. أما كان الموت أفضل لنا، لست أدري، لم أعد أدري، كل ما أدريه أننا كنا أضعف من أن نموت وأوهن من أن نعيش وجرينا إلى بحر الإنتظار حتى ملّ منّا الانتظار".
وتابع الأب بلوعة "إيه بني، ما أشبه اليوم بالأمس، أين قتلى ال36، وأين قتلى ال48، وأين قتلى ال56 وال67... لطالما زيَّنوا لنا الغد حتى مددنا أيدي الوهم إلى عتبات منازلنا في حيفا ويافا وطولكرم، طالما دفنوا أحلامنا في تراب وعودهم، كأنما كتب علينا أن نباع ونشرى ونشرى ونباع مرات ومرات أهذه حياة؟ يا ليتنا وقفنا، لو وقفنا لكنا نحن الحياة، فاذهب، إذهب بني وقِفْ هناك حيث عجزنا، قِفْ في الرملة والعفولة، في شفا عمرو، في الناصرة وجنين، عند كل مفرق فوق تراب فلسطين، وليكن دمك علامة طريق للقادمين!