لجبل صافي معها حكايات
علي كريّم
بطاقة الهوية: مكان وتاريخ الولادة: حومين الفوقا 1975.
تاريخ الإصابة: 21-4-1993.
نوع الاصابة: بتر الساقين.
الوضع الاجتماعي: عزباء.
عند مفترق العمر، اكتست ثوب البهاء، والناس من حولها في غفوة النوم، يَشْدُون شغف الدنيا دون اكتراث فالعمر عمر ربيعي، وهي وحدها تحوك من طاعة اللَّه نعمة القرب، وتنسج من رضوانه للصبر ألواناً... من قال أنها هنا انتهت، هنا نضبت، لا بل اليوم ولدت، اليوم أسرجت للعابرين دروب النصر، وللسالكين دروس الصبر، وللبائسين روح الحياة... من قال أن سقاء الدم لم يُزهر، وصلابة القلب لم تثمر، وصفاء الروح لم يكبر!! وهي التي اقترنت ولادتها بالذكرى المباركة لولادة قمر بني هاشم أبي الفضل العباس ابن أمير المؤمنين عليه السلام حتى بات الحب فيضاً، والإيثار وصالاً والقلب كله ثقة بربه ولسان الحال: "أليس اللَّه بكافٍ عبده".
زهرة أُصيبت في قصف إسرائيلي غادر على بلدتها، إذ سقطت قذيفة بالقرب منها، ولم تكن إلا ثوان، حتى شعرت زهرة أن حياتها قد تغيرت. فقد أدّت إصابتها إلى بتر ساقيها وهي في عمر الثمانية عشر، ولقد أدركت زهرة حينها ما سر تعلقها بأبي الفضل العباس عليه السلام وكيف هو بحق رمز التضحية والإيثار والفداء، أدركت حينها أن مسؤولياتها قد بدأت وهي التي كانت تقضي وقتها قبل الإصابة في التحصيل الدراسي، إضافة إلى عمل البيت وتعليم بعض الأولاد. واحد وعشرون يوماً قضتها زهرة في المستشفى بعد إصابتها، تفكر في صورة حياتها الجديدة، كيف ستكون؟ وما سيكون موقف الناس من حولها؟ واحد وعشرون يوماً كانت بحق فرصة لبناء علاقة متينة مع اللَّه سبحانه وتعالى، وفهم حقيقة الأمر بعين الرحمة الإلهية لإيصال الدرس المطلوب إلى كل من تسوِّل له نفسه التحسر على ما أصاب زهرة، حتى بات كل من يعرفها يخجل من قول (آه) عند مرضه وإذا سُئل عن السبب يقول بأن زهرة قد علمته درساً في الصبر واللجوء إلى اللَّه جلَّ وعلا شأنه.
عَلِمت زهرة بعد الإصابة أن مسؤولياتها قد تعاظمت وواجباتها الاجتماعية أضحت جزءً من حياتها، فهي لم تعد فقط زهرة الطالبة التي تكرس وقتها للمدرسة والبيت والتعليم بل هي الجريحة الصابرة الشاكرة لحسن بلاء اللَّه سبحانه وتعالى والقادرة على إعطاء الدرس الوافي في التضحية والطاعة والاحتساب عند اللَّه والقدرة على متابعة الدرب بروح أقوى وعزيمة ثابتة وخطىً واثقة. mأصبحت زهرة السبَّاقة لعيادة المرضى ومشاركة أهل البلدة في الأفراح والأتراح والواجبات الاجتماعية كافة، حتى باتت مفخرة لمجموعة من القائدات الكشفيات، فزهرة قائدة مرشدات في كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه كما وأنها منسقة إعلامية في الهيئات النسائية في البلدة، وهذا كان سبيلاً لدفعها باتجاه تحمل مسؤوليات أكبر وجعل حياتها تتسم بالشمولية والتوسع باتجاه الرسالة التي تحملها وضحّت من أجلها، إذ لم يعد المطلوب منها تأدية المطلوب ببعده الظاهري فحسب بل أنها شعرت أن مسؤوليتها تملي عليها أن تحمل رسالة الجرح المكتوبة بألوان الصبر والطاعة، فيكون الأداء ممزوجاً بعبق الفداء ومُزداناً بروح العزة والصمود وبنفس مثابرة على مواصلة الدرب. تُجيد زهرة فن تنسيق الزهور وهي تمارس حياتها بشكل طبيعي وتسعى لملء وقتها بالإستفادة القصوى، بين المطالعة خاصة الدينية منها وتنسيق الزهور وتأدية الواجبات وهي الحاضر عندها دوماً ذكر الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام والسيدة زينب عليها السلام لتستمد منهم الصبر والعزيمة والمثابرة والإخلاص (لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة)...
ولجبل صافي مع زهرة حكايات تطول، فهو الشامخ قبالة البلدة، فلكم كانت قبل وبعد الإصابة تجلس لتتأمل شموخه وهي تدرك أن سر هذا الشموخ ليس بحجمه ولكن بمن فيه ومن صعده ومن مر عليه، لتستمد العزم والقوة وروح الجهاد والعنفوان والإباء، حتى إذا ما أُصيبت، شعرت بالقليل القليل من المواساة لمن يضحي بالكثير الكثير على تلاله، وحتى إذا ما جاء الانتصار المبين، أدركت حينها أن اللَّه قد إختصها بنعمة الجرح الذي أضحى معبراً تسلك فيه معاني الجهاد والصبر والوفاء لدماء الشهداء وتتعلم من خلاله الأجيال دروس الثبات والعزم على حمل الرسالة... إنه بحق جرحٌ بات مدرسة علَّنا نستزيد منها، فهنيئاً لها ذلك الجرح ومباركة لنا جراحاتها...