حسن زعرور
حدقت فاطمة في المرآة طويلاً، لاحظت مِشح دوائر سوداء تظلل عينيها من قلة النوم، وسمارها الشاحب يلقي على الوجنتين بقاياه في سكون حزين، كانت عيناها باهتتين تتحركان بنظرة حائرة، كأن ما في المرآة ضباب امرأة تخطت العشرين منذ أيام، ووجهها الزاوي في قمطته السوداء يرسم ظلال جمال قروي آسر.
لم تعد الأيام كما هي، تمتمت لنفسها، ثم عادت تمسح قطع الأثاث برتابة كمنْ يكرر الفراغ، لم يبق شيء كما كان، صحيح أن طيفه لم يفارق خيالها ولا البيت، وصورته المعلقة في صحن الدار تلقي عليها التحية صبحاً وظهراً ومساء، بعينيه الحلوتين العسليتين، وابتسامته الطفولية العابثة، وأنفه الرقيق، وخصلتي شعر تتسللان من تحت "البيريه" بعشوائية حلوة على جبينه، والثوب العسكري المرقط في زهوته المعشوشبة، تكاد الصورة أن تحكي لولا أنها صورة، حدقت بها طويلاً في سهوم أحلامها، ثم أشاحت إلى الواقع حولها من جديد. عندما اختارته كانت تعي، أنه وهب روحه للَّه سبحانه، وتذكرت كيف كان يهمس نجواه في سجوده ويطيل، وكيف ينتصب وكفّاه تلمان دمع الدعاء، وإنثناءته يلهج بالتسبيح، أو عودته عقب كل غياب، مدعوك الثوب منمنم الحذاء بالأوحال، تعب الفرحة مرهق السلام، حتى إذا ما استحم وقيلولته القصيرة هش إليها وللابنتين يداعب خاصرتيهما حبوراً، ويستمع إلى حبور الضحكات الطفولية جذلاً، ثم يعود إليها وعلى وجهه ألف معنى ومعنى وألف سؤال وسؤال، يا لعينيه وروعتهما والدفء والحنان، كتاب لا يمكن الملل من قراءته، لهفة وقلق وشوق، تمنٍ وأمل ورجاء، تقرأ وتقرأ وتقرأ حتى تكاد تذوب فيهما تحناناً وعاطفة، وكانت تدرك عظيم ما يعتلج في فؤاده، وتُكبر فيه تضحيته. لقد ترك ابنتين، قالت أختها مرّة بحسرة، وما بال البنتين ردت فاطمة، ولماذا ترك تقولين؟ لقد اختار طريقه الأقرب للَّه وأردناها معه، أكانتا ابنتين أم صبيين، خيارنا خياره ودربنا دربه وسوف نلتقيه معاً.
مسحت رطيب دمعة ندّت جفنيها، وعادت إلى أفكارها، لم تعد البنتان كما كانتا أيضاً، طفولتهما رحلت مع رحيله، تدخلان المنزل بلا حفيف ولا ضجيج، كأنما روح المنزل راحت معه، وهي لا تني تفكر فيهما، وكيف لها أن تُشبع هذا الشوق فيهما إلى حنينه، وكيف لها أن تسقي هذا الظمأ فيهما إلى رؤياه، وكيف لها أن تبلسم قلبيهما والآذان صدئت من قلة النجوى، اخطيئتها هي؟ أم هما؟ أم الزمن؟ لم تعد تدري، كل ما تدريه أنها نسيت كيف يكون الابتسام فأنستهما، وما تدريه أنها أذبلت الفرحة في بيتها وقد عاد زوجها شهيداً، محمولاً على أكف رفاقه، تلك المرة لم تستطع غسل ثيابه، ولا نزع الشوك عن ثناياها، ولا إزالة الطين العالق في خصلات شعره، يا ليتها فعلت، ويا ليتها، لخبأت من ذلك الطين نتفاً تهوي إليها في صلاة روحها العطشى ولاستلت من الثوب مزقة تؤنس قلبها المشتاق إليه، لكنها لم تفعل على الشهيد أن يقابل ربه بدمه قالوا لها. ولكنه لم يفترق عن ربه سبحانه، رأته في مخافته وشوقه إليه، يدعوه حتى يبكي الليل نداه، ويتعبد إليه كما الفجر يستبق الصلاة، كان في قلبه وروحه ونجواه.
عادت الابنتان على غير عادتهما، جذلتين وبريق خبرٍ يلتمع في الأعين قبل الشفاه، ناولتاها صحيفة على غلافها صورة الأب الشهيد وذكراه السنوية، قالت البنتان بعبثٍ طفولي "أرأيت، لم ينسوه" حدقت فاطمة في الصورة وغصة شجن تكاد تفيض "لا لم ينسوه، وهل يمكن لمن كان مثل أبيكما أن ينتسى"؟ ورددت لنفسها هامسة، لعلني أخطأت ولعلهم لم يحسنوا التعبير من قبل، أنفت نظرة الإشفاق في الأعين. لعلهم لم يحسنوا التعبير ولعلي أسأت الحكم، بدا العطف حولها خالياً من رونق الاعتزاز، كأنما فرضية الموت أذهبت عنفوان الاستشهاد وعظمته، كانت تريد لو ترى تلك العظمة على كل شفة وكل عين، تريد لابنتيها عظمة الإحساس بذاك الذي دفع دمه ثمناً للقربى من اللَّه سبحانه، تريدهما أن تتذوقا حلاوة البذل وسمو العطاء، لا الإحساس بالعطف والشفقة، لقد استشهد والدهما وهل بمقدور كل فرد تذوق طعم الشهادة؟ هي مقدرة اختصت بالعظماء وحدهم في أمة لم تعد تعرف سوى الانحناء والمذلة، لعلهم لم يحسنوا التعبير، بل أو لعلها لم تحسن القراءة في أعينهم قالت لنفسها، ثم قامت إلى طفلتيها فألبستهما ثوبين أبيضين كما الملائكة وقالت: "هلما للقاء والدكما كما وعدناه".