الشيخ حسين كوراني
هذه محاولة نتنقل معها في مجالس العلماء بكل ماتحفل به من رحيق براعم الوحي وأزهاره،وشذا عطرها المحمدي،و أريجه المتضوع. ونحن هنا في مجلس آية الله الشيخ محمد البهاري الهمداني(1265 1325 هجرية) وهو التلميذ الأبرز في مدرسة اية الله الشيخ حسين قلي الهمداني، والذي عرفت مدرسته من خلاله، والنص مقتطف من "تذكرة المتقين" الذي يشمل عددا من وصاياه، بترجمة الكاتب.
* آداب المراقبة(*)
الأول: ترك المعاصي: وهذا هو الذي بني عليه قوام التقوى وأسِّس عليه أساس الآخرة والأولى، وما تقرَّب المتقربون بشيء أعلى منه وأفضل. من هنا سؤال حضرة موسى عليه السلام لحضرة الخضر: ماذا فعلتَ حتى اُمرتُ أن أتعلم منك؟.. بماذا بلغت هذه المرتبة؟ قال: بترك المعصية. إذاً يجب أن يُكْبر الإنسان ذلك ويراه عظيماً، ونتيجته أيضاً كبيرة وعظيمة. حقاً.. كم هو قبيح من العبد الذليل المستغرق آناً فآناً بالنعم الإلهية وهو في محضره سبحانه بمفاد قوله: "مع كل شيء لا بمفارقة، وغير كل شيء لا بمزايلة(1). ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد/4). مع هذا يكشف برقع الحياء عن وجهه ويرتكب بجرأة و جلافة ما نهى عنه حضرة ملك الملوك، ما أشنعه وما أجفاه. حقاً إن مثل هذا الشخص يستحق أن يسجن أبد الآبدين في سجن جبار السماوات والأرضين، إلاّ أن يتوب ويشمله رداء رحمته الواسعة.
الثاني: الاشتغال بالطاعات: أيّ طاعة كانت بعد الفرائض لكن بشرط الحضور، فإن روح العبادة هو حضور القلب الذي بدونه لا يصلح القلب. بل قيل إن العبادة بلا حضور، تورث قسوة القلب. إذا كان "الشخص" من أهل الذكر فجيد أن يكون ذكره أوائل أمره الاستغفار، وفي الأواسط الذكر اليونسي، يعني: "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، وفي الأواخر، الكلمة الطيبة "لا إله إلا الله"، بشرط الاستمرار مضافاً إلى الحضور.
الثالث: المراقبة(2): يعني أن لا يغفل عن حضور حضرة الحق جلَّ شأنه(3).. وهذا هو السّنام الأعظم والرافع إلى مقام المقربين، ومن كان طالباً للمحبة والمعرفة فليمسك بهذا الحبل المتين. وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه واله : "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(4). إذاً يجب أن يكون حاله في الباطن كذلك دائماً،كأنه واقف بين يدي مولاه، ويكون ملتفتاً لذلك. وفي هذا الخبر مغزىً هام وهو: كأن ملخص الفقرة إشارة إلى أنه لا داعي في مجال العبادة إلى أن يتصور الإنسان ربه، أو يعلم ما هو، حتى يحتاج إلى الواسطة من المخلوقات كما يقول بعض الجهال من الصوفية(5). بل يكفي للتوجه إليه "تعالى" هذا المقدار، وإن لم يعلم أنه ما هو وكيف هو، فتأمل فإنه دقيق نافع.
الرابع: الحزن الدائم: إما من خوف العذاب إذا كان من الصالحين، وإما من كثرة الشوق، إذا كان من المحبين، لأنه بمجرد انقطاع خط الحزن من القلب، ينقطع خيط الفيوضات المعنوية. ومن هنا حكي عن لسان حال التقوى أنه قال: "إني لا أسكن إلا في قلب محزون". والشاهد على المدّعى قولُه تعالى: "أنا عند المنكسرة قلوبهم". إذاً اعلم يا عزيزي، أنه كلما ورد على قلب الإنسان من قبيل المحسِّنات، سواء كان الحزن أو الفكر أو العلم أو الحكمة أو غير ذلك، فهو مثل الضيف الذي ينزل بالشخص، إذا اهتممت بواجب الضيافة وإكرام الضيف وأحسنت وفادته وأنزلته في مكان نظيف مريح، واعتنيت به حق العناية، فإنه سيرغب في المستقبل بالنزول في بيتك، أما إذا أذيته، فمن الصعب أن يعود. إذا كان لك مع الله تعالى حال فيجب في ذلك الحال، أن تعرف قدره أي الحال وأن لا تضيعه، وإلا فبعد أن يزول هيهات أن يمكنك إرجاعه. وإجمالاُ إذا أردت أن تشم رائحة من الإنسانية، فيجب أن تجاهد، وإنه لأصعب من الجهاد مع الأعداء(6) ويسمي العرفاء هذا الجهاد الموت الأحمر. ومعنى المجاهدة هذه، أنك أولاً يجب أن تؤمن بأن أعدى عدوك نفسك التي يقع رأسمالك في تصرفها، وهي المتصرفة في أركان وجودك مع الشياطين الخارجين الذين هم أصدقاؤها. إذاً يجب أن تكون حذراً جداً.
عندما تصبح يجب أن تقوم بعدة أعمال:
الأول: المشارطة:
كما أنك عندما تريد أن ترسل شريكك المالي في تجارة تشترط عليه شروطاً.. هنا يجب أن تذكر تلك الشروط بعينها، بل أكثر، لأن خيانة ذلك الشريك المالي لم تثبت بعد، وخيانة هذه (النفس) التعيسة ثبتت، وانكشفت مراراً وتكراراً.
الثاني: المراقبة: ومعنى المراقبة القيام بمهمة حراسة النفس، مخافة أن تحمل الأعضاء والجوارح على المخالفة، فتضيِّع العمر العزيز الذي يعتبر كل آنٍ منه أغلى من جميع الدنيا وما فيها.
الثالث: المحاسبة: أي عندما يخيم الليل، يجب أن يجلس (العبد) للحساب؛ هل حصل على منفعة أم أنه قد لحق به ضرر؟ وعلى الأقل إن كان لم يخسر رأسماله فقد ربح.
الرابع: المعاتبة أو المعاقبة، (للنفس): إذا كانت لم تحصل على منفعة، أو المعاقبة، إذا كانت قد جلبت ضرراً، ومعنى العقاب أن يوقع نفسه في الرياضات الشرعية الشديدة، مثل الصوم في الحر، أو الحج ماشياً لمن لا يؤدي به ذلك إلى الهلاك، وأمثال ذلك مما يؤدي إلى طاعة النفس وترويض جموحها في فترة قصيرة(7). والحاصل: أنه لو منعتك القساوة من التأثر بالمواعظ الشافية ورأيت الخسران من نفسك يوماً فيوماً، فاستعن عليها بدوام التهجد والقيام، وكثرة الصلاة والصيام، وقلة المخالطة والكلام، وصلة الأرحام، واللطف بالأيتام، وواظب على النياحة والبكاء، واقتدِ بأبيك ادم وأمك حواء، واستعن بأرحم الراحمين، وتوسل بأكرم الأكرمين، فإن مصيبتك أعظم، وبليتك أجسم، وقد انقطعت عنك الحيل، وزاحت عنك العلل، فلا مذهب ولا مطلب، ولا مستغاث ولا ملجأ إلا إليه تعالى، فلعله يرحم فقرك ومسكنتك، ويغيثك ويجيب دعوتك، إذ هو يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ولا يخيب رجاء من أمله إذا رجاه، ورحمته واسعة، وأياديه متتابعة، ولطفه عميم، وإحسانه قديم، وهو بمن رجاه كريم، اللهم آمين ؟
(*) المراد بها هنا ما يشمل مراقبة الإنسان نفسه، ومراقبته لحضور الله تعالى، وليلاحظ أن بعض عبارات النص وردت بالعربية فلم أتصرف بها إلا لماماً.
(1) نهج البلاغة،الخطبة رقم 1.
(2) المراد بها هنا التنبه إلى حضور الله تعالى ومراقبة أن الإنسان مراقَب.
(3) لا تغفل طرفة عين عن ذلك القمر..فلعله ينظر وأنت لست متيقظا. (مضمون بيت). الأصفهاني، وليلاحظ أن ما جاء في الهوامش بهذا التوقيع فهو لأية الله الشيخ حسن علي أصفهاني ، صاحب الكرامات الشهير، المعروف ب "نخودكي".
(4) النمازي (الشيخ علي) مستدرك سفينة البحار، ج7 259، وقريب منه: الطبرسي، مكارم الأخلاق 457.
(5) المراد ما يقوله هؤلاء من استحضار الشيخ عند الذكر وما شابه من الجهالات.
(6) قال الصادق عليه السلام: "ليس بين العبد وبين الله حجاب أظلم وأوحش من النفس والهوى، وليس لقمعهما وقطعهما سلاح مثل السهر بالليل والظمأ بالنهار". الأصفهاني.
(7) ينبغي التأمل في ما ذكر للعقاب ليعلم منه أن دائرته تنحصر بما ورد في الشريعة، لا أن يلجأ إلى ما يريد فيبتدع.