مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة قصيرة: "عواد"

حسن زعرور(*)

 



إن لم تصطبر عليّ لأكمل حديثي دعنا نفترق. ما كل هذه الحماسة التي أراها لديك؟ بالأمس لم يكن لسانك ليهدأ في الحديث عن الثورة والثوار والحرب مع اليهود حتى آخر عربي، ثم تُسمعني اليوم نغمة مختلفة "إن جنحوا للسلم فاجنح لها"! القرآن على رأسي يا سيدي، ولكن ألا تحفظ، أولا يعجبك من القرآن سوى هذه الآية؟ أقرأت ما قبلها وما بعدها؟ نجنح للسلم، الآن؟ أبعدما فقدنا آلاف الأبناء تحدثني عن السلم؟ وماذا نقول لمئات ومئات اليتامى؟ وماذا نقول لمئات ومئات الأرامل، وماذا نقول لمئات ومئات المشوهين والمفقودين ومن خربت بيوتهم؟ نقول أخطأنا وعفا اللَّه عما مضى؟ إنها لذلة، لا تقاطعني لا تقاطعني أقول لك، بالأمس كان نشيد الثورة ديدنكم، ومهرجانات الدعم لفلسطين من كبيركم لصغيركم، ما أنتم؟ قل ما أنتم؟ بل من أنتم يا أولاد الـ...؟

إهدأ يا أخي عواد إهدأ، العين لا تقاوم المخرز، كنا غير قادرين على إسرائيل وحدها، فكيف الآن ومعها أمريكا؟ نحن لن ننسى فلسطين... أسكت إياك أن تكمل، لن ننسى فلسطين، يا فخرنا! أنتم لن تنسوا فلسطين، صحيح، نكتب اسمها على صفحات الجرائد والمجلات، نذكرها في نشرات الأخبار، يا فخرنا! نستقبل اليهود في عقر دارنا ثم نتبجح، لن ننسى فلسطين، لقد كفى اللَّه المؤمنين القتال، واليهود أولاد عمومتنا أليس كذلك؟ يا فخرنا! أنكذب على فلسطين أم على أنفسنا بربك؟ إن لم تستح إفعل ما شئت، يا لعارنا! يا لذلنا! هل علمت بأمة حملت عارها مثلنا؟ قل، ثم نرفع رؤوسنا بين الناس؟ يا لعارنا، يا ويلنا من الأعظم!

إهدأ بحق اللَّه، أنت رجل سبعيني ويؤذيك الانفعال. ثم ماذا نفعل أنا وأنت؟ ما مكاننا من الإعراب؟ حرف زائد أو ناقص في هذه الأمة، ماذا بإمكاننا أن نفعل، يريدون مصالحة إسرائيل ليكن، المهم أن نخلص ونربي أولادنا، شبعنا حروباً. نريد أن نرى الدنيا، نريد أن نعيش يا أخي مثل كل العالم من حولنا. أخرج، أخرج قبل أن أقسم على فعل شي‏ء معك أندم عليه، أخرج... طال الليل على عواد، جفاه النوم بعدما أيقظ ذكرياته البعيدة. رأى نفسه يحتلب البقرة في الطاسة الصغيرة، ثم يصب منها ناثراً الرذاذ المتساقط على جلبابه. مسح فمه بكمّ ثوبه وعدا إلى خارج الزريبة، وهناك كان رفاقه بانتظاره للعب الاستغماية وطال اللعب حتى غشيهم الليل. ويذكر عواد كيف اختبأ منهم في كومة التبن حتى أتعبهم، ويذكر بعدها كيف تسلق كل واحدٍ منهم تينة وراح يغني "مواويله" ويذكر... ويذكر... كيف فرَّ بعد أيام هارباً يدوس جثث رفاقه من شدة خوفه بعدما حصدتهم الرصاصات الإسرائيلية، أين أبوه؟ فُقد، أين أمه؟ لا يعرف عنها شيئاً، وإخوته وأعمامه، هناك قتيل، وهناك مشوه وهناك مفقود. لم تنسَ عيناه الدمع فبكى وراح يتمتم: "للَّه ما أحلاها وما أمرّها من أيام، للَّه ما أحلاها وما أمرّها من أيام".

أطل عليه الفجر في جلسته تلك يرنو بنظره إلى الأفق، ثم حاول القيام فأمضَّه الألم لطول جلوسه، غير أنه غالب نفسه ثم استوى متكئاً على عصاه، ترنَّح في مشيته وتهدَّل ثم زادت خطواته ثقة وحركة. وروى شهود عيان، أن الرجل المسن لم يعبأ بسلاح الجندي الإسرائيلي، وواصل تقدمه نحوه، حتى إذا ما كاد يلتصق به أخرج من جلبابه مدية مستدقة النصل، وطعن بها الجندي طعنة واحدة حمّلها كل ما بقي له من قوة، فسقط الإسرائيلي صريعاً، أما الرجل المسن فقد عاجله بقية الجنود بإطلاق النار وأردوه.
ويحلف الشاهد يميناً أنه رأى الرجل المسن يبتسم رغم إصابته، ثم يقول كلمة واحدة "فلسطين" وأسلم بعدها الروح والابتسامة على شفتيه!



(*) في الذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب حسن زعرور تنشر بقية اللَّه هذه القصة التي كان قد كتبها للمجلة وبقيت في أرشيفها.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع